رغم أن العمل الإرهابي المؤسف الذي راحت ضحيته سائحتان أجنبيتان بمنطقة الحوز، كان هو الحدث الطاغي والبارز الذي سيطر خلال الأسبوع المنصرم على اهتمامات الرأي العام الوطني، ولَفَتَ أنظار المتابعات الإعلامية، إلا أن ذلك لم يحجب حدثين بالغي الأهمية في المسيرة الديمقراطية والحقوقية الوطنية، يعكسان التطورات العميقة والهادئة التي تشهدها أعمال بناء وتشييد المشروع الحداثي والتنموي الوطني. وكلا الحدثين يتعلقان برسالتين ملكيتين ساميتين على درجة كبيرة من الأهمية، لما ورد فيهما من توجيهات ومبادرات قوية في اتجاه إعطاء مضمون حقيقي للحكامة الجيدة في تدبير ورشي الديمقراطية وحقوق الإنسان. أولى الرسالتين، الرسالة التي وجهها جلالة الملك إلى المشاركين في فعاليات الملتقى الثالث لبرلمانات الجهات، والتي لم تكتف بالتذكير بالمكتسبات المحققة على صعيد إرساء الجهوية وحكامتها المجالية، والتحديث المؤسسي لآليات الوساطة على المستوى الترابي، وكمِّ الصلاحيات المخولة للجماعات الترابية وعلى رأسها الجهات، بل ذهبت أبعد من ذلك في مساءلة الكيفية التي تدبر بها أو تمارس بها هذه الاختصاصات، وفي جودة خدماتها وتدخلاتها من أجل أنتاج الثروة والاستفادة الجماعية منها، وحل معضلات التنمية والتشغيل، والاستجابة لانتظارات المواطنين خصوصا فئات الشباب والنساء منهم. لقد وضعت هذه الرسالة الملكية حدا فاصلا بين نقاش سعة الصلاحيات وحدود مسؤوليات المؤسسات الجهوية، ونقاش الفعل والفاعلية في تدبير الجهات لاختصاصاتها وصلاحياتها، ذلك التدبير الذي ينبغي أن يقاس بحجم الأثر الملموس المتحقق في تحسين ظروف عيش المواطنين، وفي تقديم خدمات القرب للساكنة، والإسهام في تحقيق التنمية المندمجة والعدالة الاجتماعية والمجالية. وفي هذا السياق جاءت الدعوة الملكية إلى فتح نقاش موسع، لا في صلاحيات الجماعات الترابية التي حددتها القوانين المنظمة لها في النهوض بالتنمية المندمجة والدائمة، بل في تفعيل هذه الصلاحيات وتأهيل جميع الجماعات الترابية والجهوية، لممارستها، وعلى رأس هذا التفعيل والتأهيل، التفكير في وضع إطار منهجي يحدد الجدولة الزمنية لمراحل ممارسة الاختصاصات، وتعبئة التمويلات الضرورية للبرامج والمشاريع. أي المرور إلى مأسسة الحلول المبتكرة والملائمة والهادفة، وتسخيرها في حل معضلات الهشاشة والندرة والخصاص، وتوجيهها في اتجاه دعم الاستثمار المدر للشغل والثروة. وعلى هذا الأساس الذي يجعل الجهوية الموسعة والمتقدمة في قلب التحولات الديمقراطية والتنموية الوطنية، وفي عمق المنظور الإصلاحي الشامل للمؤسسات، كانت الرسالة الملكية حاسمة في تحميل الفاعلين المنتخبين مسؤولياتهم الكاملة في جعل خدمة المواطن وتنمية مجاله الترابي ومحيطه الجهوي، هدفهم الأساس وأولوية الأولويات التي تَهُونُ دونها كل الاعتبارات الانتخابوية والسياسوية الضيقة. ولأن هذه الأولوية محورية في كسب رهانات التنمية المستديمة، وفي ربح معركة المشاركة الديمقراطية، فإن جلالة الملك شدد على عدم قابليتها للتأجيل، كما شدد على ضرورة العمل الحثيث على بلورة خطط وبرامج جهوية لإدماج الشباب، وتقوية قدرات الفئات الوسطى، مع العمل على انبثاق طبقة وسطى فلاحية. إن استحضار الفاعلين العموميين الترابيين في المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، لخارطة الحكامة الترابية التي أوضح جلالة الملك أبرَزَ عناصرها، وبسط أهم آليات تدبيرها، وحدد مسؤوليات المنتخبين والهيئات الاستشارية الجهوية في النهوض بأسئلة العدالة الاجتماعية والمجالية، من شأنه أن يتيح للعمل الجماعي والجهوي الخروج من نفق الانتظارية والاتكالية اللتين تحولان دون تحقيق المؤسسات المنتخبة والوسيطة لطموحنا الجماعي إلى انبثاق وساطتها الإيجابية والفاعلة، والمعول عليها في الإجابة عن التحديات المرتبطة بالجهوية المتقدمة بما تشكله من رافعة قوية للنموذج التنموي الشامل والمندمج المنشود. ثاني هاتين الرسالتين، الرسالة الملكية السامية بمناسبة الاحتفال بالذكرى السبعين لإقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي لم تؤكد فحسْب على الالتزامات الدولية للمغرب في مجال حماية حقوق الإنسان من الانتهاكات، بل أعلنت عن سلسلة من التدابير الحقوقية المغربية، في مجال تعزيز رؤية بلادنا لحماية الحقوق والحريات، وإشاعة مبادئها وثقافتها، ودعم وتثمين مجهودات المجتمع المدني المغربي في خلق الدينامية الوطنية الفاعلة المعززة لروح الوطنية والمواطنة، من أجل الوصول إلى توفيق المقتضيات الكونية لهذه الحقوق والحريات مع اشتراطات التطور في البنيات الذهنية والاجتماعية المغربية، بهدف بلوغ التملك الفردي والجماعي السليم لثقافة الحقوق والحريات. وفي هذا الإطار لا يمكن اعتبار المغرب مجرد منفعل أو متفاعل مع النداءات الأممية بتطبيق المعاهدات الدولية ذات الصلة بحماية الحقوق والحريات وإدماجها في النسيج السياسي والمجتمعي، وهي المعاهدات والالتزامات المكرسة بنص الدستور وبالقوانين الحمائية التطبيقية لها، وإنما يتخطى دور المغرب هذا الإطار، إلى طابع الفاعلية في تجديد المنظور الحقوقي وتوسيعه وتطعيمه، وذلك باعتماد خطوات سباقة في توسيع المفاهيم الحقوقية ومأسسة عدد من إجراءاتها، وعلى رأسها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، ومحاربة كل أشكال الميز، لا سيما الميز الذي يستهدف النساء، وتقليص الفوارق بين الفئات والجهات، وفي هذا الإطار تندرج الرؤية الإنسانية المغربية السباقة في المنتديات الدولية لحماية حقوق المهاجرين، والتي حظيت بتثمين دولي. ولعل التكريس المتواصل لمبدأ الاستقلال التام للسلطة القضائية المنصوص عليه في الدستور، والذي أعاد جلالته التأكيد عليه في هذه الرسالة، يدعو إلى مزيد من التمسك بمبدأ استقلالية السلطة القضائية، بعيدا عن أي ضغط أو تدخل، والنأي عن الزج بهذه السلطة في أتون الولاءات والمزايدات السياسية، كيفما كانت حيثيات القضايا المحالة على القضاء، وأياًّ كانت مكانة ومناصب ومسؤوليات المحالين عليه أو المتابعين في الملفات المعروضة، مع التأكيد الدائم على رعاية قرينة براءة المتهم إلى أن يتبين العكس. لقد جاءت الرسالتان الملكيتان المتزامنتان لتؤكدا أن التجربة الديمقراطية والحقوقية المغربية ماضية في مسيرتها الداعمة للبناء والتشييد، والأمل في مستقبل أفضل للعيش المشترك والكريم والآمن في هذا البلد، وفي مواجهة نزعات التيئيس والتدمير والتشويش، وأن لا رجعة ولا توقف عن هذه المسيرة المباركة، مهما كان الثمن، ولو كان طعنة غادرة متربصة في جنح الظلام.