يتابع الرأي العام الوطني، بكثير من المرارة والأسف، خرجات بعض المسؤولين والمدبرين السابقين والحاليين للشأن العام، للفت الأنظار إلى أشخاصهم أو تصفية حسابات خاصة مع جهات معلومة أو مجهولة، أو حكاية بطولات وهمية لا أثر لها في تحسين حياة الناس، أو الإيحاء باستحالة التغيير والإصلاح بدونهم، أو شتم الآخرين وترهيبهم وتوعدهم حين مناقشة حصيلتهم أو مواقفهم أو سلوكاتهم، وصارت هذه الملاسنات مادة إعلامية دسمة تصبح عليها الصحف والمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعية، وتمسي عليها، وكأن كل القضايا الحيوية للبلاد قد عولجت، وآن الأوان للتفرغ لأجواء الفرجة والقفشات والكلاشات والمبارزات الشعرية والفنية. كيف تَأَتَّى لضمائر هؤلاء المسؤولين السياسيين والمدبرين العموميين، أن ترتاح ويتفرغوا لتدبيج مدونات الهجاء والمديح والرثاء والغزل، وهي لم تُخْلِ ما بذمتها من مسؤوليات في تعقيد أوضاع البلاد، وتعميق الاحتقانات، وتنفير العامة والخاصة من كل ما يرتبط بالسياسة والعمل السياسي الذي صار عندها رديفا للرداءة والانحطاط والتآمر والخذلان. إذا كان الفاعل السياسي والحكومي أو مدبر الشأن العام والجماعي المسؤول عن قراراته وبرامجه ومواقفه وتصريحاته، مستعدا في أي وقت وحين للتملص من أفعاله وأقواله، وإلقاء اللوم على الغير في تبرير تراجعاته وإخفاقاته، أو تحويل فضائحه أو أخطائه إلى مظالم وشكاوى من ظروف أو أعداء متربصين ومغرضين، فإنه بذلك يساهم من حيث يحتسب أو لا يحتسب، في تزييف وعي المواطنين وتشويه فِطَرهم التي تقول للذي أحسن أحسنت وللذي أساء أسأت، من غير مجاملة في الحق أو مناورة في تسمية الأشياء بغير مسمياتها، كما يساهم في طمس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، بالاعتراض على أي نقد أو ملاحظة موجهة إلى تدبيره وإلى شخصيته العمومية، فإذ هو يخوض في المسؤوليات يمنع غيره من أن يخوض في محاسبته عليها، وإذ يقدم نفسه مدبرا وعرضة للمتابعة والمساءلة، يرى غيره ممن ينقده أو يسائله مدمرا، وينظر إلى الأعين التي ترقبه أو تلحظه وهو يخبط بالبلاد والعباد، عيونا متلصصة ومتجسسة وفضولية وحاقدة ونذير شؤم. وإذ تضبطه الأقدار متخبطا ومنزلقا، وتشير إليه الأصابع، يتهم الأصابع بالتآمر عليه والتخطيط لاستهدافه وتصفية شخصه الكريم والفاضل الذي لم يجد الزمان بمثله، والذي سيفتقده الناس كما يفتقدون البدر في الليلة الظلماء. لقد تعمدنا أن نتكلم عن نموذج هذا الفاعل السياسي المسؤول والمدبر، بمثل هذه اللغة غير السياسية التي يجيد عدد من المسؤولين والمدبرين للشأن العام إغراق النقاش السياسي العمومي بها، في الوقت الذي تدعو فيه ضرورات العصر وخطاب الحكامة الجيدة ومبادئ ربط المسؤولية بالمحاسبة، والثقافة الحقوقية والديمقراطية، بما فيها من احترام للحق في الاختلاف والنقد والاعتراض، إلى انفتاح شخصية المسؤول والمدبر العمومي على الأسئلة العمومية والمساءلات النقدية الموجهة إليه، بقدرات تفاعلية وتواصلية وإقناعية عالية، لا مكان فيها للسباب والشتم، والاختفاء وراء أقنعة من قبيل نظريات المؤامرة والتآمر والتخابر والاستهداف الشخصي. إن مسؤولا ومدبرا لا يميز بين النقد الديمقراطي لتدبيره وتسييره أو المساءلة السياسية لقراراته أو المتابعة الإعلامية لنشاطاته، والمؤامرة الخبيثة التي تستهدف شخصه الكريم المنزه عن الخطأ، يستحيل أن يكون مسؤولا عن أي فعل يأتيه، أو أن يقنع أحدا بالخطاب الديمقراطي الذي يتبناه في مطالبة الأغيار به، فيما هو يرفضه إذا تعلق الأمر بشخصه الكريم الحامل للحقيقة المطلقة. الديمقراطية كل لا يتجزأ، واختيار لا رجعة فيه، في كل تجلياتها المؤسستية والإعلامية والأخلاقية، والحق في الاختلاف والرأي والنقد حق للجميع، والاعتراف بالخطأ فضيلة والإصرار عليه أو الاعتداد به رذيلة، وتقبُّل النصيحة شيمة، والحجة تواجه بالحجة والدليل، وانسجام الخطاب والمرجعيات أوالسلوك والقناعات محمود، وتناقض الأقوال مع الأفعال مذموم، والتطاول على الغير بالسباب والشتم وعنف الخطاب، سوء خلق، أو بلغة الثقافة الحقوقية سلوك غير مدني، هكذا ينبغي أن تسمى الأشياء، وأن يتم تأهيل النقاش العمومي حول تدبير الشأن العام، وترشيد الخطاب السياسي، وتربية الناشئة والأجيال الصاعدة على ثقافة المواطنة الحق، وعلى المشاركة الإيجابية في الحوار والنقاش العمومي المفتوح حول القضايا الحيوية للبلاد، أما الانتكاس بالخطاب السياسي الوطني إلى تسمية النقد والملاحظة والتوجيه والسؤال والمساءلة بمخططات المؤامرة والاستهداف بالتصفية والانتقام، فلن يكون إلا تعبيرا عن هشاشة الثقافة الحقوقية والديمقراطية لدى هذه الفئة من المسؤولين والمدبرين الهاربين من ميدان تدافع الأفكار والمبادرات إلى ساحة المعارك الحربية والمبارزات العضلية، بهدف خلط الأوراق والإفلات من المساءلة والمحاسبة، وتلبيس الحقائق على الناس وشغلهم بما لا ينفعهم. إننا نكتشف، بكل أسف، مع هذه النماذج السياسية من المسؤولين والمدبرين الذين لا يتأففون، فحسْب، من نقد تدبيرهم أو مواقفهم أو تصريحاتهم أو سلوكاتهم، بل يحاربون كلَّ تَوجُّه لمساءلتهم أو معاتبتهم، ويضمرون شرا مستطيرا لكل من سولت له نفسه أن يشير إليهم بسؤال، أن دربنا في الديمقراطية لازال طويلا. فلنجعل مناسبة هذه الملاسنات الصاخبة والخرجات المنفلتة في زمن الإصلاح، فرصة لمراجعة قناعاتنا السياسية الديمقراطية المتذبذبة، وخطابنا السياسي الذي انحرف إلى الشتيمة والخديعة والتلبيس والمغالطة، والاتعاظ من الآثار الوخيمة لهذا الخطاب المأزوم في التربية على المواطنة، وانعكاساته السلبية على تعبئة المواطنين لإنجاح مختلف الاستحقاقات السياسية للبلاد.