ليست هذه هي المرة الأولى التي تتم الإشارة فيها إلى ضرورة وجود إطار تنسيقي وتتبعي بين القطاعات الحكومية المتدخلة في المشاريع الاستراتيجية الكبرى للبلاد، خصوصا ما تعلق منها بالخطط والبرامج التنموية، وها هو المجلس الأعلى للحسابات في تقريره التقييمي الموضوعاتي الأخير حول مدى جاهزية المغرب لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة (2015 2030) المعتمدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي التزم المغرب بتنفيذها سياسيا وإيجاد إطار دستوري وتشريعي مناسب للعمل بها، يكشف بالدراسة والتشخيص الدقيق وبالأرقام والمؤشرات ما تم التنبيه إليه عامة من ضعف التنسيق بين مختلف الفاعلين السياسيين والحكوميين والقطاعات العمومية والخصوصية والجماعات الترابية وجمعيات المجتمع المدني، ومن غياب الرؤية النسقية والمقاربة الشمولية والمندمجة والتشاركية والمنظور التكاملي في تدبير تحديات ورهانات هذه الخطة. لقد نظمت الحكومة في شهر ماي 2016، أي منذ ما يناهز ثلاث سنوات، مناظرة وطنية يتيمة حول تنفيذ أهداف التنمية المستدامة دعا إليها مختلف الفاعلين والشركاء والوزارات وممثلي المنتظم الأممي، انتهت بخلاصات وتوصيات في غاية الأهمية، لكن، وكأن دور الحكومة يقف عند حدود تنظيم مناظرة وتوزيع الدعوات و”البادجات” واستقبال الضيوف وتوديعهم، لم تعقبها أية متابعات أو تتبع أو رصد وترصيد، من شأنها أن تحسن من مؤشرات التقاء الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة مع الخطة الأممية 2030، وأن يحصل التناسق والتكامل في التدخلات القطاعية لتنفيذ أهدافهما. لقد سبق لجلالة الملك أثناء إعلانه إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في ماي 2005، أي قبل قرابة عقدين من الزمان، أن حدد الفلسفة المؤطرة للمشروع المجتمعي التنموي في “المنظور المتناسق” و “خيار الانفتاح” وأن “التنمية الفعالة والمستدامة لن تتحقق إلا بسياسات عمومية مندمجة ضمن عملية متماسكة ومشروع شامل، وتعبئة قوية متعددة الجبهات، تتكامل فيها الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والثقافية والبيئية”، وأن التجارب دلت على “محدودية جدوى المقاربات التنموية غير المندمجة، ذات الطابع القطاعي الانفرادي، المنعزل عن باقي القطاعات الأخرى، فضلا عما تؤدي إليه من الاختلالات الناجمة عن تعدد الفاعلين، وتشتيت الجهود، وتبذير الموارد”، وهذه الرؤية الملكية المؤكِّدة على الطابع الاندماجي والتكاملي والتناسقي والشمولي في كل مشروع تنموي استراتيجي ناجح، هي نفسها التي تعود اليوم في التقرير التقييمي للمجلس الأعلى للحسابات عن جاهزية المغرب لتنفيذ الخطة الأممية التنموية 2030، لتطرق أبواب الحكومة باعتبار مسؤولياتها السياسية التدبيرية تحت سلطة رئيس الحكومة في تنزيل الرؤى والاستراتيجيات تنزيلا سليما، يوفر على البلاد إهدار الفرص في الأخذ والرد والتلكؤ، وتدبير التنزيل بالتجزيء والتشتيت وتكريس المقاربات القطاعية المنعزلة، وتهديد مشروع وطني كبير وطموح بالتراجع عنه وإغراقه في تخبطات واختلالات وارتباكات غالبا ما يتم التنبيه إليها في محطات تقويمية عديدة، دون أن تثير حفيظة المسؤولين عن السياسات العمومية للتحرك في اتجاه استدراك الخلل، وتحسين العروض التنموية والتحكم في مساراتها. إن الخلاصة العامة والعميقة التي يمكن استنتاجها من تشخيصات تقرير المجلس الأعلى للحسابات ومن رصده للاختلالات في تنفيذ التزامات خطة 2030، لا تخرج عن ملاحظة وجود ضعف في احترافية وحكامة المسؤول العمومي، الذي يقع على عاتقه تنسيق مجموع العمليات المرتبطة بالاستراتيجية التنموية سواء في التزاماتها الوطنية أو تعهداتها الدولية، وهذا الضعف سيهدد لا محالة بتأجيل سؤال التنسيق والتفعيل مرة أخرى إلى ما بعد سنة 2021، كما استنتج التقرير نفسه، بل “لا يوجد مخطط وطني لتنفيذ برنامج 2030” ولا توجد جهة “مكلفة بتتبع أهداف التنمية المستدامة”، ولم تحدث بعد “بنية للتنسيق بهدف تحديد الأولويات والتتبع والتقييم”. وباختصار، هناك عدم جاهزية للبنيات الحكومية للتنفيذ الأمثل لتعهدات خطة 2030 التي قطعت إلى غاية اليوم أربع سنوات في ارتجال التدخلات وبطء الإيقاعات. ولأن تقرير المجلس الأعلى للحسابات قد دق ناقوس الخطر وهو يشير إلى احتمال تعطيل دمج أهداف التنمية المستدامة في السياسات الوطنية إلى ما بعد سنة 2021، وبالتالي تهديد التزامات المغرب بتعهداته الدولية، فإن الواجب على جميع المتدخلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين وعلى رأسهم المدبر الحكومي المسؤول عن تنسيق عمليات التنمية المستدامة وتنزيلها، أن يستثمروا تشخيصات وخلاصات هذا التقرير في تحسين اقتراحاتهم حول النموذج التنموي الوطني، وتأهيلها للاندماج الفعلي في الرؤية الناظمة لأهداف التنمية المستدامة 2030 وفي قيمها المرجعية التي تطالبنا باحترام مؤشراتها ومكوناتها ومحاورها، وحسن ترجمتها على أرض الواقع. لقد حملت المناظرة الوطنية الأولى اليتيمة حول تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، شعار: “تأكدْ ألا يتخلف أحد عن الركب”، لكن لا أحد بالفعل تأكد من أن لا أحد تخلف عن ركب التنمية، بدليل ما أكده تقرير المجلس الأعلى المذكور، من غياب التتبع والتنسيق وضياع المنادي والمنادى، وضعف انخراط الجميع بعد هذه اللوحة التحسيسية، التي لم تتجاوز الأوراق واللافتات التي طبعت عليها، والأضواء التي سلطت عليها لحظة زخم بدايات تفرقت السبل بعدها بالمشاركين فيها، وتخلفوا جميعهم عن الركب فيما كانوا يبحثون عن أحدٍ ما منهم تخلف عن الركب.