كشف المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، أن قطاع التكوين المهني، “ما زال يعرف اختلالات كبيرة، تحد من أدائه ومن قدرته على إذكاء دينامية فعالة للتشغيل، ولإعداد الرأسمال البشري، الذي تحتاجه البلاد قصد تحقيق التحولات الاقتصادية والمجتمعية المرجوة”. وأفاد المجلس في تقريره الخاص حول “التكوين المهني الأساسي.. مفاتيح من أجل إعادة البناء”، والذي جرى عرض مضامينه من طرف عبد اللطيف الميراوي، رئيس مجموعة العمل الخاصة بالتكوين المهني، في ندوة صحفية، أمس الجمعة بالرباط، (أفاد) بأن المستويات المقترحة بمؤسسات التكوين المهني (التخصص، تأهيل، تقني، وتقني متخصص) تنبني على أساس نموذج متجاوز لتنظيم العمل (عامل متخصص، عامل مؤهل تقني)، لم يعد قائما في جل المقاولات، ويشكل عامل عدم تلاؤم مع حاجاتهم، وعائقا أمام اندماج الخريجين في سوق الشغل”. وأكد التقرير أن “الإطار التشريعي والمؤسساتي المنظم للتكوين المهني”، بالرغم من كونه يغطي مجموع الجوانب المتعلقة بهذا القطاع، “إلا أنه أضحى متجاوزا، بالمقارنة مع التطورات المهمة والمطردة التي تعرفها الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد”، مشيرا في هذا الصدد إلى أن “أغلبية النصوص المؤسسة للتكوين المهني، يعود تاريخها إلى أكثر من 30 سنة، ثم أضاف التقرير أنه على “الرغم من المراجعات والتعديلات التي طرأت عليها من أجل ملاءمتها مع المستجدات، فإنها تقتضي إعادة صياغة شاملة”. ووفق المصدر ذاته، فإن “تجميع قطاعات التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي في قطاع وزاري موحد، أبان عن توجه سياسي جديد، قائم على مقاربة شمولية لمعالجة الشأن التربوي ببلادنا، إلا أن هذا الدمج يظل ذا طابع إداري فقط، ولن يحقق أهدافه إلا إذا شمل كافة مكونات المنظومة الوطنية للتربية والتكوين”. ويرى المجلس في تقريره أنه “إذا كان من شأن إرساء، من قبل وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، سلك الباكالوريا المهنية، وما يؤدي إلى هذه البكالوريا في نهاية التعليم الإعدادي، أن يشكل لبنة أولى في إرساء ارتباط عضوي بين التكوين المهني والتربية الوطنية، فإن الجانب المتعلق بالتوجيه في المقابل، وانعدام أو ندرة الممرات التي تتيح العودة إلى التعليم العام، أو إلى متابعة الدراسة ما زالا يعيقان الارتقاء بالمسار المهني وتثمينه لما بعد التعليم الإعدادي. كما أن عدم مواكبة الشباب المعرضين لخطر الانقطاع عن الدراسة، وغياب تدابير تروم التكفل بهم مبكرا، تشكل بدورها رهانات تتطلب حلولا مواتية”. وتابع التقرير أنه “إذا كان التكوين المبنى قد استطاع تحقيق تراكمات مهمة على المستوى الكمي، خصوصا بفضل المجهودات المبذولة من حيث الاستثمار خلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة، فإنه على المستوى الكيفي لا يزال يعاني جملة من الإكراهات، تجعل مستوى تأهيل الخريجين موضوع العديد من الانتقادات من طرف المشغلين، كما تؤدي بأعداد مهمة من الشباب إلى مغادرة التكوين المهني من دون دبلوم أو تأهيل”. ومن بين هذه الإكراهات، ما تعلق ب”أنماط التكوين” (داخل المؤسسات، بالتمرس، بالتدرج المهني)، حيث أوضح أن كلا من هذه الأنماط تعترضه العديد من الصعوبات التي تحد بشكل كبير من مردوديته، لافتا إلى أن “نمط التكوين داخل المؤسسات لا يسمح بالانغماس في الوسط المهني، في حين أن النمطين الآخرين، اللذين يسمحان به فعلا، يعانيان من ضعف انخراط المهنيين وحافزيتهم، ومن نقص في التأطير داخل المقاولات المستقبلة، ومن انعدام عمليات التقييم، التي من شأنها تجديد هذه الأنماط التكوينية وتأهيلها”. وزاد التقرير أن “العرض التكويني الخاص يتسم بالركود، وبالاقتصار على القطاعات التي تتطلب أقل الاستثمارات”، كاشفا أن “أكثر من 66 في المائة من المؤسسات الخاصة ليست معتمدة، وتثار بشأنها العديد من التساؤلات حول نوعية التكوينات التي تمنحها وقيمة الشواهد التي تُسلمها”. وقال التقرير إن “اضطلاع القطاع الخاص للتكوين بدوره، بوصفه فاعلا نشيطا في الاستجابة للطلب الاقتصادي والاجتماعي للتكوين المهني، هدف لم يتحقق بعد، ويستلزم دفعة جديدة”. وحسب المعطيات التي تضمنها تقرير المجلس الذي يرأسه عمر عزيمان، فإن “هناك تناقضا بين تنوع مسالك التكوين من جهة، وبين غياب شبه كامل لعروض التكوين في قطاعات قادرة على خلق فرص الشغل، من قبيل “الخدمات الموجهة للأشخاص”، من جهة أخرى؛ الأمر الذي يشكل اختلالا كبيرا على مستوى عرض التكوين”. وسجل التقرير أن تعدد الفاعلين على مستوى قيادة التكوين المهني، وعلى صعيد تنفيذ السياسة العمومية في هذا المجال، إلى جانب تعقد نموذج التمويل، وتشتت مراكز اتخاذ القرار فيما يتعلق برصد الاعتمادات، “انعكس سلبا على مهام التخطيط والتنسيق وتتبع التنفيذ، إذ أصبحت جد معقدة، وفي غالب الأحيان غير فعالة”. التقرير ذاته، والذي يقع في 115 صفحة، أشار إلى “غياب نظام تقييمي شامل ومحايد لجودة التكوينات، ولأداء مؤسسات التكوين المهني”، معتبرا أن هذا الغياب “لا يتيح لهذا القطاع إمكانية القيام بإجراءات استدراكية، عند الضرورة، أو بتوجيه القطاع نحو الأولويات المحددة”، ليضيف أن “المحاولات التي تم اتخاذها بهذا الصدد، بقيت جد محدودة، سواء من حيث مجال تطبيقها، إذ أنها لم تشمل مجموع القطاع، أو من حيث انتظامها؛ إذ أنها لم تنظم إلا بشكل متفرق”. ومن أبرز الاختلالات التي توقف عندها التقرير، تلك المتعلقة بنظرة الجمهور لقطاع التكوين المهني، حيث قال إن “جاذبية التكوين المهني تظل المبنى دون المستوى المطلوب لدى الجمهور المستهدف منه، والذي تنظر إليه فئة كبيرة من هذا الجمهور، بمثابة مسار مخصص للمتعلمين في وضعية فشل دراسي، مما يحد من اختياراتهم من حيث استراتيجية النجاح الشخصي”، مضيفا أن “ترابية المسالك داخل منظومتنا، تؤدي إلى توجيه نحو التكوين المهني، قائم على الإخفاق الدراسي”. وأورد التقرير أنه ب”الرغم من كون التكوين المهني يشكل بديلا ييسر الولوج من أجل الاندماج المهني، فإنه لا يزال يعتبر خيارا لمن لا خيار له، ممن فشلوا في مسارهم الدراسي، ومسارا لا يفتح”. وفيما يخص تلاؤم العرض مع الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والترابية، قال التقرير إن “التكوين المهني، الذي يعود تأسيسه إلى أزيد من55 سنة، استطاع أن يستجيب بدرجات متفاوتة لحاجات التأهيل المهني للموارد البشرية، في استحضار للمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية على السواء”، مضيفا أنه “ومع ذلك تبقى هناك العديد من نقط الضعف، والتي تهم على الخصوص، الجوانب الكمية والنوعية وتلك المرتبطة بدينامية التطور”. ومن ضمن نقط الضعف التي كشفها التقرير، اتسام العرض التكويني ب”التضخم في بعض القطاعات، وبالمحدودية في قطاعات أخرى”، فضلا على أنه “غير متكافئ بين الوسطين الحضري والقروي، مما يتسبب في فوارق مهمة في الولوج للتكوين بالنسبة للأشخاص المنحدرين من الوسط القروي”. وسجل التقرير أن هذا العرض “لا يوفر طاقة كافية من حيث الداخليات، لإيواء الشباب المرشحين لولوج مؤسسات التكوين المهني، خاصة وأن أغلب هذه المؤسسات توجد بالوسط الحضري أو المدن الكبرى”. وانتقد التقرير “عدم الأخذ بعين الاعتبار، في عرض التكوين المتوفر، شرائح واسعة من الشباب، خصوصا منهم البالغين أقل من 16 سنة والموجودين في وضعية انقطاع دراسي”، والذين يصل عددهم إلى 130 ألف طفل. وكشف المجلس في تقريره أن “شريحة من السكان المعوزين والمقيمين بالمناطق النائبة عن المراكز الحضرية، لا تتاح لها فرص حقيقية للولوج إلى التكوينات ذات القيمة المضافة العالية من حيث الاندماج الاجتماعي والمهني. وخلص واضعو التقرير فيما يخص الشق المتعلق ب”الاختلالات” إلى أن “التكوين المهني يجد صعوبة في الحفاظ على نفس وتيرة التطور المطرد، وفي اعتماد نهج استباقي، يمكنه من المواكبة المنتظمة والناجعة للتحولات المستمرة التي يشهدها محيطه، مما أدى، من جهة، إلى “جمود مستمر على المستويات البنيوية والمؤسساتية والتدبيرية وتنظيم منغلق، جعل هذا القطاع التكويني، في انفصال عن الواقع السوسيو- اقتصادي، ومن جهة أخرى، إلى نوع من الإحساس بالرضا عن الذات، الذي لم يسمح بالمساءلة اللازمة والمنتظمة لأدائه”.