تخلد الطبقة العاملة المغربية اليوم عيدها الأممي في سياق اجتماعي واقتصادي وطني، يتسم بالكثير من الجمود والتباطؤ والتردد والانتظارية في السياسات العمومية، وفي أخذ زمام المبادرة في العديد من الملفات الحيوية والهيكلية للموارد البشرية، ولمؤسسات الإنتاج والتكوين، وللبنيات الإدارية والمادية والمالية الوطنية، إن لم نقل التراجع عن العديد من المكتسبات الذي تخيم آثاره وانعكاساته السلبية على الحياة الاجتماعية الكريمة للمواطنين وعلى قدراتهم الشرائية وعلى صمود المقاولات الإنتاجية في الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية والاجتماعية، وتهديد القطاعات الواعدة والصاعدة بالانحباس والإفلاس والفشل، وفي ظل غرق الفاعل الحكومي في تدبير المشاكل المتواترة الناتجة عن غياب الحكامة، وعن صراعات جانبية داخل التحالف الحكومي، والتي تضعف القوة الإقناعية للعروض الإصلاحية التي لم تقنع واضعيها فبالأحرى المستهدفين بها. ولعل أول ما ينبغي الإشارة إليه في مشهد تدبير السياسات العمومية، بناء على تطلعات وانتظارات المواطنين، وعلى رأسهم شغيلة المغرب وموارده البشرية العاملة في مختلف القطاعات الحيوية بالبلاد، هو تفشي مظاهر التذمر والغضب والاحتقان في صفوف هذه الطبقة من العمال والمستخدمين والأجراء والموظفين، بمختلف فئاتهم وهيئاتهم، جراء تهميشها من الاستشارات بخصوص رسم ملامح عيشها ومستقبل أبنائها في هذا الوطن، وعدم إشراكها في الحوار حول التوافقات التي تهم تدبير انعكاسات القرارات الاقتصادية والاجتماعية على أوضاعها الهشة وتوازناتها المالية. يمكننا تلخيص هذه المظاهر في جملة واحدة وهي: فقدان الثقة في الوعود والمبادرات والعروض المقدمة للإصلاح. لقد أبانت الشهور الأخيرة من العمل الحكومي عن ضعف شديد في الإقناع بالتدابير والتدخلات بغية الاستجابة لانتظارات الفئات العريضة من المواطنين، والذين تؤطرهم حركات احتجاجية قوية، بعضها عفوي، وبعضها الآخر تؤطره مركزيات نقابية وجمعوية، وبعضها الآخر تؤطره أشكال وألوان من الهياكل التنظيمية الجديدة والتنسيقيات المحلية والجهوية والوطنية، وعدد آخر منها تؤطره مواقع التواصل الاجتماعي، التي باتت تستقطب إليها جمهورا من الشباب المتذمر، والتي صارت مرتعا لأجندات سياسية تتحين الظروف والمناسبات التي توفرها التربة الخصبة لانتشار الإشاعات وضعف الحوار والتواصل المؤسساتيين، من أجل الإطاحة بما تبقى من ثقة وصمود في اللحمة الاجتماعية الوطنية. بالكاد وقَّعت الأطراف الثلاثية للحوار الاجتماعي (الحكومة، والمركزيات النقابية، وممثلو رجال الأعمال والمقاولات) اتفاقية جماعية على أبواب من مناسبة فاتح ماي لهذا العام، وفي الدقائق الأخيرة، بعد شهور من الأخذ والرد والانحباس والانتكاس، فيما كان مفروضا أن يكون هذا الحوار مؤسساتيا ومستديما في كل المحطات والأزمات التي عرفتها البلاد خلال هذه السنة، وحيث كان ينبغي على الحكومة أن ترعاه كتقليد سام ومترفع عن المناسباتية وعن الضغوطات الآنية لتنفيس أزمات اجتماعية استفحلت وشلت قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والتشغيل وغيرها لشهور عديدة، نؤدي اليوم ثمنها بإهدار كبير للطاقات ولزمن الإصلاح، لا يمكن استدراكه أمام حجم نزيف الخسائر، أقلها ضياع آلاف مؤلفة من ساعات العمل والإنتاج، جراء الإضرابات والاحتجاجات والاعتصامات والمقاطعات المتواصلة والمتناسلة. فهل يكفي الركون إلى اتفاقية جماعية مناسباتية، ومحدودة في عروضها والتزاماتها، أن نضمن سلما اجتماعيا، وعودة للهدوء والطمأنينة إلى الجسم الاجتماعي الوطني الذي يغلي بركامات وتراكمات مشتعلة من المطالب المؤجلة، بعد أن تم حقن هذا الجسم بكل الحقن المهدئة، دون دعم مناعته الداخلية التي أساسها تقوية الثقة في المؤسسات، وعلى رأسها الهيئات التمثيلية والتأطيرية لفئات الشغيلة وقواعدها، التي تحتضن المطالب وتتفاوض بشأنها، وترعى المصالح وتقنع بأدائها؟ قطعا لا يمكننا ضمان التهدئة والسلم الاجتماعي بمجرد التزامات ووعود محدودة لا يلمس عموم المواطنين أثرها المباشر والقوي في تحسين عيشهم، رغم التحملات المالية الكبيرة لميزانية الحكومة في تنفيذها وتفعيلها، إذ لا تغيب عنا تداعيات الاتفاقية الجماعية ل 26 أبريل 2011، بسقفها العالي وغير المسبوق في الإلتزام بالاستجابة للعديد من المطالب الاجتماعية، التي تتم إعادة برمجة ما تبقى منها، من سنة إلى أخرى، فبالقدر الذي فتحت فيه هذه الاتفاقية أملا، بقدر ما أخلفت وعودا وأحبطت فئات اجتماعية لا زالت تنتظر دورها إلى غاية اليوم لتفعيل الالتزامات في حقها. نخشى أن يزيد التلكؤ والتباطؤ والتأجيل، من الشعور بعدم الرضى والخوف من المستقبل، وتحسس درجة احتمال القدرات الشرائية للمواطنين وصمودها في وجه الغلاء وضغوط الحياة المعيشية. فقد أبانت المركزيات النقابية العمالية عن درجة عالية من الحكمة والحكامة المواطِنة في تأطير المطالب والتفاوض بشأنها، غير أن إضعاف وساطتها الإيجابية، واتساع رقعة التذمر والإحباط يمكنهما أن يجعلا احتواء الأزمات والتحكم في الاحتقانات متعذرين، خصوصا مع ظهور أشكال تمثيلية وتنظيمية فئوية جديدة أربكت المشهد الاجتماعي، وأفقدت الوساطات التقليدية النقابية أدوارها المؤسساتية في التأطير والتمثيل، بل أدوارها التاريخية في التربية على الحق والواجب وعلى الانضباط والالتزام، التي جعلت الحاضنة النقابية، في الأمس القريب، مدرسة في تثقيف العمال وتربيتهم وإعادة تأهيلهم وإدماجهم. لنا في تنسيقية الأساتذة المتعاقدين، خير مثال على هذه البنيات التأطيرية والتمثيلية الجديدة، التي وجدت الحكومة نفسها معها وجها لوجه، في غياب الوسيط النقابي المسؤول والمنضبط، حيث شلت إضرابات هذه التنسيقية قطاع التربية الوطنية لثلاثة أشهر، كادت تختم الموسم الدراسي الحالي بالبياض. فإذا لم تأخذ الحكومة والنقابات هذا المعطى المستجد، في التأطير النقابي والحوار الاجتماعي، بمزيد من الجدية في دعم كونهما شريكين في المخاطبة والتفاوض والتوسط، ودعم الثقة في التزاماتهما بحل الأزمات ورعاية المصالح، فإن هياكل أخرى ستسد هذا الخصاص، وسترفع سقف الاحتجاج والرفض، وستحبس الأنفاس وترهن العمل النقابي الوسيط بالفوضى وبالأجندات السياسية الانتهازية المتربصة باستقرار البلاد وأمنها. ولأن الطبيعة لا تحب الفراغ، فإن فاتح ماي لهذه السنة خير فرصة لدعم الشرعية التمثيلية والتنظيمية للمركزيات النقابية، وتعزيز أدوارها في القرب والمخاطبة والتفاوض والوساطة، بل والتربية على الانضباط سواء في أداء الواجب أو في المطالبة بحق.