كم هو كبير هذا الحدث الذي لاحت تباشيره من فضاءات المكتبة العمومية الكبرى بنيويورك، بداية الأسبوع الماضي. كم هو كبير حدث الإعلان عن تتويج جلالة الملك محمد السادس بجائزة الاعتراف الخاصة بالريادة في مجال النهوض بقيم التسامح والتقارب بين الثقافات… كم هو كبير هذا الحدث بموضوعه الذي يتجاوز الأفق، وبدلالاته وأبعاده السياسية والإنسانية والثقافية. وكم هي صادقة، وصائبة ومعبرة، هذه الفقرة من كلمة المديرة العامة لليونسكو: "إنه لشرف خاص بالنسبة لي أن أقدم لجلالة الملك محمد السادس جائزة الاعتراف الخاص بالريادة في مجال النهوض بقيم التسامح والتقارب بين الثقافات"، ذلك لأن المهمة هي تسليم إشهاد مميز لقائد مميز يعتبر رمزا بارزا من رموز الجيل الجديد من القادة الذين يؤثرون إيجابا في مسار الأحداث، وضمن مقدمة صناع التاريخ الحديث والمستقبل المنظور بكثير من الحكمة والشجاعة، وبقدر كبير من الواقعية والشجاعة والمسؤولية. من المعروف أن جلالة الملك سبق وأن توج بعدة جوائز عالمية اعترافا وتقديرا، من مؤسسات دولية وازنة، للمجهودات والأعمال الجبارة التي يقوم بها لفائدة تثبيت الأمن والتعايش والسلم والاستقرار في العالم أجمع. على أن التتويج المستحق الذي حظي به جلالته هذه السنة من لدن مؤسسة (التحالف العالمي من أجل الأمل)، والذي جرت مراسيمه في نيويورك حيث تسلم الأمير مولاي رشيد الجائزة باسم جلالة الملك، يتعلق بإشكالية من أعقد الإشكالات التي تواجه البشرية جمعاء في عصرنا الراهن، أي كيف يمكن أن تنقذ الحضارة الإنسانية من مخاطر الكراهية والتطرف الأعمى، وأن تحافظ على الأمن والسلم والتعايش بين الشعوب، وعلى التقارب والتفاهم بين الثقافات والحضارات الإنسانية. ولذلك كان من الطبيعي أن تجمع العديد من الشخصيات العالمية، والفعاليات السياسية والثقافية، في تصريحاتها بالمناسبة ، على إبراز الدور الفعال والمتميز الذي يقوم به ملك المغرب تجاه هذه الإشكالية ، وعلى تأكيد الاعتراف بالامتنان لجلالة الملك وبالتقدير الخاص الذي يحظى به جلالته في كل المحافل الدولية التي تثمن عاليا دوره وجهوده في مجال دعم ثقافة التسامح والتقارب بين الشعوب . والواقع أن للمغرب والمغاربة كل الحق في الافتخار والاعتزاز بالريادة الملكية وبهذا الإشعاع الحضاري الذي تكتسبه سياسة ومنهجية جلالته على مستوى العلاقات الدولية ومبادراته المتعددة وما تتميز به من حكمة مبدئية وجرأة وشجاعة . ولاشك أن هذا الاعتزاز المستحق له سنده الإستراتيجي في التوجه السياسي العام الذي سار عليه المغرب في عهده الجديد ، والذي وطدته وعززته الإصلاحات والتحولات الكبرى التي يقودها عاهل البلاد ، بما فيها دستور 2011 الذي " يحظر كل تحريض على العنصرية أو الكراهية أو العنف" ، والذي يؤكد على أن " حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها " . والأكيد أن السند الإستراتيجي والمتناسق لا ينحصر على مستوى النصوص الدستورية أو التشريعية ، بل هو حاضر بكل قوته وفعاليته على مستوى الممارسة والسياسة المتبعة ، ومن الأمثلة على ذلك : أولا، في مجال الشأن الديني وتدبيره ، أن إمارة المؤمنين في المغرب تعتبر بمثابة الحصانة الرئيسية للدولة والمجتمع في مواجهة مختلف أشكال الغلو والتطرف ، ومن أجل تطويق سرطان الكراهية والعنف والترويج للاقتتال باسم الدين . وفي هذا الاتجاه، اتخذت عدة قرارات لإعادة ترتيب الحقل الديني وصيانته من كل تحريف أو استغلال سياسي أو دعائي ، كما تم التنصيص دستوريا على أن المجلس العلمي الأعلى هو الجهة الوحيدة المختصة بالإفتاء . كما تم أيضا إنجاز عمل كبير في مجال دعم الأئمة والقيمين الدينيين والارتقاء بتكوينهم ، بما في ذلك الاعتناء بهم وبتجديد النخب الدينية في أوروبا وبتدبير مساجدها ، وإنشاء مؤسسة العلماء الأفارقة ، زيادة على الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها مع بلدان إفريقية وأوروبية في مجال التأطير الديني والاستفادة من التجربة المغربية في هذا الميدان . ثانيا، من الجانب التنموي، يتميز النموذج المغربي بجعله الاهتمام بالإنسان محور العملية التنموية، كما تجلى ذلك في مبادرة التنمية البشرية ، وفي غيرها من المبادرات التي أطلقها جلالة الملك في مختلف جهات وأقاليم البلاد ، بما فيها طبعا مناطق العالم القروي . ونفس الاهتمام يوليه المغرب لقضية التنمية البشرية المستدامة على الصعيد الدولي، اعتبارا لكون تحقيق التوازن في التنمية على هذا الصعيد ، وبالذات بين الشمال والجنوب، يعد من المتطلبات الأساسية لدعم جسور التقارب والتعايش الإيجابي بين الشعوب . وكان جلالة الملك ، وبشكل واضح وصريح قد نبه المجتمع الدولي لهذا الجانب، في خطابه الموجه إلى الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة،بتأكيده على " أن الاستقرار لن يتحقق بدون تنمية، كما أن التنمية لن تستقيم بدون استقرار، وكلاهما مرتبط باحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية " . ثالثا ، أن المغرب يظل رقما صعبا بالنسبة لجماعات التطرف والإرهاب بفضل حزمه ويقظته على أرض المواجهة المفتوحة، وفي نفس الوقت هو شريك وفاعل كبير في المعركة ، المتعددة الواجهات التي يخوضها المجتمع الدولي ضد هذه الجماعات وخلاياها النائمة و"اليقظة" وهناك إجماع دولي على التنويه والتقدير الذي يحظى به المغرب ودوره في التصدي للمخططات الإجرامية التي تستهدف أرواح الأبرياء وأمن الدول واستقرارها. وبصدد التعاون في هذا الباب ، سبق لجلالة الملك أن أكد ، في رسالة موجهة إلى قمة القادة حول مكافحة الإرهاب بنيويورك ،على أن المغرب "مستعد لتقاسم تجربته مع كل الدول الشقيقة والصديقة ، وتمكينها من البرامج التي طورها في مجال إشاعة القيم الإسلامية السمحة ، والانفتاح على الديانات والثقافات والحضارات الأخرى". وبمثل هذه الأمثلة ، يمكن فهم ما لتتويج جلالة الملك بجائزة الريادة في التسامح من أبعاد ودلالات تنم عن اعتراف أممي واسع بجهوده ومبادراته الخيرة ، وبمناقب شخصيته القيادية المتميزة والرفيعة المستوى والمقام . وإن كان للمغرب أن يفخر بهذا التكريم ، فكذلك هو الأمر بالنسبة لكل الأشقاء والأصدقاء ، وخاصة في قارتنا الإفريقية التي نسجت معها الديبلوماسية الملكية مرحلة جديدة من العمل المشترك ، وفتحت بها أوراشا كبيرة في مجالات البناء التنموي والنهوض الاجتماعي . وما من شك في أن هذا العمل ، وما يقدمه المغرب من دعم ومساندة لعمقه الإفريقي ، سواء في مواجهة جماعات الإرهاب والتطرف، أو في مجال التأطير والتكوين وتقاسم الخبرات ، آو في تحركاته من أجل إعلاء صوت القارة والدفاع عن قضاياها في المحافل والمنتديات الدولية .. كل ذلك يعد نموذجا لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الثنائية والجماعية المثمرة والمفيدة للشعوب ولبناء حاضرها ومستقبلها على أسس آمنة وسليمة . وأجمل ما في التقدير والامتنان الذي عبرت عنه مختلف الأوساط الدولية تجاه هذا الحدث ، ليس فقط دلالاته التي تنم عن التقييم الإيجابي من قبل كل هذه الأوساط للإصلاحات السياسية والمؤسساتية والاقتصادية التي أنجزها المغرب بقيادة جلالة الملك ، بل وأيضا الإقرار المعبر عنه بكون جهود المغرب ومبادراته لا تقف عند مصالح هذا الأخير، وإنما تمتد لخدمة أهداف التعاون الدولي والقاري لما فيه مصلحة الشعوب التي تتطلب بالضرورة انتهاج الحوار واعتماد قيم التعايش والتقارب والتسامح بين هذه الشعوب . وبكل ذلك نكون أمام عربون جديد على أن المغرب له خياره الديمقراطي ، وملكيته المواطنة ، ونموذجه التنموي الواعد ، وانفتاحه على حقائق العصر ، وجديته في التصدي للقلاقل وفي بناء شراكات نافعة … المغرب بكل ذلك يعطي العربون والدليل على أنه يسلك الاتجاه الصحيح ،بل اتخذه بكل تلقائية لأنه يواكب العصر ومتطلباته.