تتواصل، خلال هذا الأسبوع، مناقشة البرلمان لمشروع قانون المالية للسنة المقبلة، الذي كان وزير الاقتصاد والمالية قد قدم مضامينه وتوجهاته العامة الأسبوع الماضي، أمام جلسة مشتركة بين مجلسي النواب والمستشارين. وتعد مهمة دراسة قانون المالية والمصادقة عليه من أهم وظائف المؤسسة التشريعية التي تأتي بعد مهمة التنصيب البرلماني للحكومة، وبالإضافة إلى مهام المراقبة والتشريع وغيرها من المهام المسندة دستوريا للبرلمان. ومن رأي عدد من المتتبعين أن مشروع قانون المالية هذا يعد أول مشروع تعده الحكومة الحالية، وذلك بالنظر إلى ظروف إعداد وتقديم القانون المالي الخاص بالسنة الجارية، ومن ثمة، وعلاوة على ظرفيته السياسية، لابد وأن يستأثر باهتمام مختلف الأوساط والفعاليات المجتمعية. وبحسب العرض الذي تقدم به وزير الاقتصاد والمالية، فإن مشروع قانون المالية المعروض للدراسة والمناقشة، تحت قبة البرلمان، قد جاء بمجموعة من المقتضيات الهامة بالنسبة للقطاعات الاجتماعية، وكذا بالنسبة للمجالات الاقتصادية والاستثمار، ويضيف بوسعيد، بأن مشروع ميزانية 2018 حدد أولويتين أساسيتين، تتعلق الأولى بالدعم غير المسبوق للقطاعات الاجتماعية، والثانية تتمثل في اتخاذ حزمة من الإجراءات الضريبية لتحفيز الاستثمار ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة. لكن، ومهما كانت إيجابيات هذا المشروع، فإنها لا تلغي ولا تنقص من أهمية المناقشة والدراسة والتجويد، لاسيما من طرف مكونات البرلمان بغرفتيه، وأيضا بالنظر إلى مجموعة من المعطيات، منها: * إلى أي مدى يمكن أن ينسجم القانون المالي ومقتضياته مع رهان الانتقال إلى نموذج تنموي جديد قادر على الاستجابة لحاجيات المواطنين وعلى اتباع سياسة تنموية متناسقة ومتوازنة. * ما هي الإمكانيات الفعلية لبلوغ بعض الأهداف ولجعل الجهود الجديدة ذات تأثير إيجابي ملموس، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للتشغيل "20 ألف منصب شغل في قطاع التعليم عن طريق عقود محدودة الآجل"؟. * في أي اتجاه سيتم توجيه الاستثمارات العمومية، وما حظوظ جعل إنجازها في مستوى طموح الأرقام المرصودة لها "195 مليار درهم"؟. هذه الأسئلة، وغيرها، تفرض نفسها، بكل تأكيد، لأنها نابعة من الأهمية القصوى لمشروع ميزانية السنة القادمة، ومن دون شك أن الحكومة تستشعر هذه الأهمية، وعلى وعي تام بها، كما يظهر ذلك من خلال بعض الركائز التي سجلها المتتبعون، ومنها، على سبيل الإشارة لا الحصر، كون القانون المالي ذا طابع اجتماعي واضح وملموس، كما يبرز في الرفع من مخصصات قطاع التعليم، وإعطاء الأولوية لسد الخصاص الحاصل في قطاع الصحة، والاهتمام بتعميم التغطية الصحية، وتشجيع الرفع من وتيرة التشغيل،… كما أن الرسالة التي كان قد بعث بها رئيس الحكومة إلى أعضاء الحكومة، والكتاب العامين للوزارات، بخصوص تحضير القانون المالي، قد ركزت على إعطاء الأولوية للتنفيذ الأمثل للتوجهات الملكية وللإستراتيجية القطاعية، ومواصلة الإصلاحات والتوازنات الماكرو-اقتصادية. وبطبيعة الحال، فإن دقة المرحلة ومعطيات الظرفية تؤكد كلها على ضخامة الانتظارات والتحديات التي يتعين مواكبتها وتحقيقها، والتي تجعل قانون المالية المنتظر إقراره له كامل تميزه عن سابقيه. فمواصلة البناء التنموي وتسريع وتيرته يستوجبان تعبئة طاقات وإمكانيات البلاد لاستكمال إنجاز الأوراش الكبرى، وفتح أخرى جديدة، وإعداد البلاد بكل ما يجعلها قادرة على مواجهة التحديات الدولية وعلى أن تكون في مستوى المنافسة إقليميا وجهويا، وبما ينسجم مع موقعها السياسي ودورها الحيوي على الساحة الدولية وفي المحافل القارية والأممية. ولا ننسى أنه قبل أيام فقط دعا جلالة الملك، في خطاب افتتاح الدورة البرلمانية الحالية، إلى إعادة النظر في النموذج التنموي المتبع، وصياغة نموذج جديد يكون قادرا على مواكبة التطورات والاستجابة للحاجيات. وكما أنه من البديهيات الواضحة، فإن وضع نموذج تنموي جديد ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو أداة مؤطرة لما ينبغي بذله من مجهودات لتلبية حاجيات المواطنين، ولذلك حرص جلالة الملك في خطاب افتتاح الدورة البرلمانية الحالية على التذكير بأن "المغاربة اليوم، يحتاجون للتنمية المتوازنة والمنصفة، التي تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب، وتساهم في الاطمئنان والاستقرار والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية التي يطمح إليها كل مواطن". في هذا الاتجاه، وبالنظر إلى كون قانون المالية ليس مجرد أرقام وجداول، فإن عرض هذا الأخير على مؤسسة البرلمان، للمناقشة والمصادقة عليه، يشكل مناسبة أو محطة مفصلية في الممارسة الديمقراطية واضطلاع كل المؤسسات بدورها ومساهمتها في رسم معالم الطريق وتحديد الاتجاه والأهداف المدققة. وكذلك فإن اتباع هذه المنهجية، فرصة للوقوف على مدى استعداد السلطة التنفيذية ليس فقط للتفاعل الإيجابي مع مكونات البرلمان، أغلبية ومعارضة، ولكن أيضا لمدى الوفاء بالتزاماتها وبشعارات برنامجها الذي على أساسه تم تنصيبها، بل إن المطلوب اليوم، هو، أيضا، توفر القدرة على الابتكار والمبادرة لمواكبة التطورات والمستجدات، وللتجاوب مع الحاجيات. على أساس ذلك كله، تشكل المحطة البرلمانية في إقرار ميزانية الدولة، مناسبة هامة لمناقشة العديد من القضايا التي لا تقف فقط عند إشكالات وحاجيات التمويل والتدبير، بل تمتد أيضا إلى التصورات الإستراتيجية وإلى ما يتعلق بالحكامة والتقويم، وإلى ما يهم الرأسمال البشري، الخ… ولذلك، وسواء بالنسبة للحكومة أو الفرق والمجموعات البرلمانية، فمن المفروض أن يتحلى الجميع بروح المسؤولية العالية، وبأن يتعامل مع هذه المحطة، في المناقشات الفرعية وداخل اللجن وفي الجلسات العامة، بأقصى درجات التفاعل الإيجابي مع مختلف الاقتراحات والملاحظات والتعديلات، على أن تصب كل التدخلات والردود في اتجاه تحسين مشروع القانون المالي وجعله في مستوى الظرفية وتحدياتها. والأكيد أن مسؤولية الحكومة ستكون كبيرة وبالغة الدقة في التعامل مع بعض المقتضيات، كالعبء الضريبي، الذي قد يؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين، وغير ذلك مما تقتضيه الحاجة لكسب رهان التوازنات الاجتماعية والمجالية، والحفاظ على أمن البلاد واستقرارها، وذلك بالحرص على تفعيل وبلورة "التوجه الاجتماعي"، الذي جاء به نص المشروع. وبتواز مع أهمية النفس الاجتماعي في السياسات العمومية، هناك بالطبع تحديات دعم الاستثمار وتحفيزه، وفي هذا الباب ثمة أيضا الكثير مما ينبغي القيام به من أجل مواصلة إنجاز الأوراش الكبرى، وكذا على مستوى دعم مقدرات المؤسسات وتحسين مناخ الأعمال، ومن أجل خلق فرص شغل جديدة. إلى ذلك، ينضاف ورش تنزيل الجهوية، التي قال عنها جلالة الملك بأنها "ليست مجرد قوانين ومساطر إدارية، وإنما هي تغيير عميق في هياكل الدولة، ومقاربة عملية في الحكامة الترابية"، إنه الورش الذي يمكن الرهان عليه في إعمال سياسة القرب، وفي تنشيط التنمية المحلية، وبناء العدالة المجالية والتضامن بين الجهات. هذا، ويبقى أن لكل هذه التساؤلات والانتظارات دلالة أساسية: البلاد ومؤسساتها السياسية والتدبيرية في حاجة إلى المزيد والمزيد من العمل والعطاء والمبادرة الخلاقة.