"لقد حان الوقت للتفعيل الكامل لهذا المبدإ. فكما يطبق القانون على جميع المغاربة، يجب أن يطبق أولا على كل المسؤولين بدون استثناء أو تمييز، وبكافة مناطق المملكة. إننا في مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب". من الخطاب السامي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين هي مسافة زمنية قصيرة فقط وتشرع وسائل الإعلام، كما المؤسسات السياسية والتدبيرية، في استعراض وتقييم حصيلة السنة التي سنودعها قريبا، كما جرت بذلك العادة في كل بلدان المعمور. وقبل ذلك، أو إلى حينه، نكتفي هنا بالوقوف عند الحقيقة التي لا شك أن الجميع يقر بها، وهي أن المغرب خلال هذه السنة عاش أحداثا كبرى وواجه تحديات من الحجم الثقيل، وعبر ذلك أكد ويؤكد، لمن يحتاج إلى تأكيد، بأن المغرب بلد عريق ودولة قوية.. قوية بمؤسساتها، وبخياراتها الديمقراطية الحداثية، وبتوجهاتها وعملها الدؤوب من أجل الارتقاء بظروف ومستوى حياة المواطنين وبناء وترسيخ العدالة الاجتماعية. والأسابيع الأخيرة، تحديدا، شاهدة على أن السنة، التي تقترب من نهايتها، كانت حافلة بانتصارات وإنجازات دبلوماسية كبيرة لفائدة القضية الوطنية، وتعزيز مكانة المغرب في مجالات التعاون والتضامن مع الدول الشقيقة والصديقة لما فيه خير ومصلحة الشعوب واستتباب الأمن والاستقرار. كذلك الشأن على المستوى الوطني، وعملا بالتوجيهات والقرارات الملكية، حيث تمكن المغرب من التصدي بنجاح للعديد من القضايا الموضوعة في جدول الأعمال، ومن إنجاز استحقاقات سياسية واقتصادية واجتماعية، وكذلك من تشخيص بعض الاختلالات والنقائص وتحديد سبل معالجتها والتغلب عليها. على أن الواقع المتحرك لابد أن له منطقه الذي كثيرا ما يجعل تدبير الشأن العام أمام قضايا ومستجدات لا تكون دائما في الحسبان، ومن ثمة فهي تستوجب القدرة على استيعابها والتحرك بالسرعة المطلوبة للقيام بما يفرضه الموقف، وأحسن مثال في هذا الباب يتمثل في الحرص الملكي على تتبع ملفات حيوية، والذي جاء في سياقه استقبال جلالته، أول أمس الإثنين، لكل من رئيس الحكومة ووزير الداخلية ورئيس المجلس الأعلى للحسابات، بحضور السيد فؤاد عالي الهمة، مستشار جلالته، وهو الاستقبال الذي تم خلاله تقديم خلاصات التحريات المنجزة حول عمل المجالس الجهوية للحسابات، والتي تفيد بأن هذه الأخيرة عليها التخلي عن المقاربة البيروقراطية التي طبعت عملها. ولنا أمثلة ملموسة عن ذلك من خلال بعض القضايا والإشكالات التي ظهرت خلال الأيام الأخيرة والتي كانت محل متابعة إعلامية متواصلة، علاوة على استئثارها بأحاديث وتعاليق المجالس، ومن ذلك بالخصوص: *موجة البرد والانخفاض الشديد في درجة الحرارة التي أصبحت، في السنوات الأخيرة، تلازم المناطق الجبلية والنائية التي تجد نفسها في بعض المناطق محاصرة أو معزولة عن محيطها الجغرافي وفاقدة للاتصال مع العالم الخارجي. وقد سارعت الحكومة، هذه السنة، إلى اتخاذ تدابير جديدة بغاية التخفيف من تداعيات التقلبات الجوية على الساكنة المحلية، ومنها إحداث وتفعيل مراكز القيادة الإقليمية للتتبع وتنسيق عمل مختلف المصالح والجهات المعنية بالتدخل لحماية وإسعاف وإيواء سكان المناطق المتضررة. وكما حصل في السنوات الأخيرة، فإن سكان المناطق الجبلية، بشيوخهم ونسائهم وأطفالهم، يعيشون معاناة حقيقية مع الصقيع وقساوة الطبيعة، وهو ما يستدعي اتخاذ كل التدابير اللازمة لمساعدة السكان وتعبئة كل المصالح والوسائل الضرورية لذلك، وطنيا وإقليميا، وباستحضار فعلي للتوجه الاجتماعي والتضامني. * القضية الثانية التي ظهرت على السطح، منذ أيام، هي ما ينشر عن فتح تحقيقات مع عدد من المنتخبين ومسؤولين في الإدارة الترابية، وعن افتحاص حسابات وزراء سابقين، والعدد الكبير من تقارير المجلس الأعلى للحسابات التي قيل بأنها وقفت على اختلالات وتجاوزات في مجموعة من المجالس المحلية والإقليمية، على نطاق واسع. إننا في زمن ربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد الشفافية والحكامة في مرافق الدولة وفي كل ما يهم تدبير الشأن العام الوطني والمحلي. وبالتالي، فإن روح المواطنة والمسؤولية الوطنية تجعل كل مواطن ومواطنة يتطلع لجعل قيم الحكامة والنزاهة هي السائدة في كل المرافق الإدارية والمؤسساتية وعلى كل المستويات، وهنا أيضا، ومرة أخرى، يمكن الأخذ بالمثل الذي يجب اتباعه من جلالة الملك، والمتمثل في تعليماته السامية التي على إثرها كشفت تحريات وزارة الداخلية عن وجود حالات تقصير في القيام بالمسؤولية لدى عدد من رجال السلطة. إن حق المواطن في معرفة ما يجري، مع احترام دور ومهام القضاء بطبيعة الحال، هو ما يفرض على كل جهة معنية مد الرأي العام الوطني بالمعلومات الصحيحة حتى يتبين حقيقة ما حدث هنا أو هناك، علما بأن نشر المعلومة الصحيحة والتواصل مع مكونات المجتمع هو أيضا جزء من منظومة الحكامة الجيدة وتحصين المجتمع من قلاقل البلبلة والإشاعة والإثارة المجانية. * أما المجال الثالث من القضايا التي نسوقها هنا كأمثلة، فيتعلق بموضوع الدعاوى القضائية المرفوعة ضد إدارات ومؤسسات عمومية، حيث أفادت تقارير منسوبة إلى المجلس الأعلى للحسابات بأن نسبة هذه الدعاوى ارتفعت بشكل كبير، وبأن تكلفة تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة من قبل المحاكم الإدارية في مواجهة الدولة، وصلت إلى 2،24 مليار درهم. وبالنسبة لهذا المعطى الجديد، وكيفما كان الحال، فإن الأمر لا يتعلق في جملته بنتائج سلبية، ذلك لأنه بالمقابل تشير نفس المصادر إلى أن نسبة تنفيذ الأحكام القضائية المرفوعة ضد إدارات ومؤسسات عمومية ارتفعت بشكل لافت خلال الشهور الأخيرة من السنة الجارية، وفي نفس السياق تفيد نفس المصادر بأن معدل الدعاوى المرفوعة ضد الدولة في ارتفاع متواصل، وهو ما يعني، أولا، بأن الأفراد أو المؤسسات المتضررة تقتنع بسلامة وجدوى اتباع المساطر القضائية، وثانيا، أن الأحكام الصادرة لفائدة هؤلاء تؤشر على نزاهة وجدية القضاء في إحقاق الحق وفقا لمبادئ دولة الحق والقانون التي تشكل زاوية أساسية في الخيار الديمقراطي للبلاد، ولا ننسى أن جلالة الملك قد تحدث بصراحة وصرامة عن هذا الموضوع الذي اشتكى منه المواطنون كثيرا، في خطاب افتتاح البرلمان السنة الماضية، حيث قال: "فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة للمواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها، وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي؟، كما أنه من غير المعقول أن لا تقوم الإدارة حتى بتسديد ما بذمتها من ديون للمقاولات الصغرى والمتوسطة بدل دعمها وتشجيعها …". وهكذا ، فإن الأحداث والمستجدات تطرح دائما سؤال الجاهزية والقدرة على التعامل مع الطارئ في هذا المجال أو ذاك وبالسرعة والكفاءة الناجعة، وهذا ما يتجسد في التعليمات الملكية الصادرة، عقب الاستقبال المذكور، لرئيس الحكومة بالعمل مع مختلف القطاعات المعنية، ومع المجلس الأعلى للحسابات قصد "رفع مقترحات للنظر الملكي السامي، داخل أجل لا يتعدى شهرين، بخصوص إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار وتأهيلها للقيام بمهامها في تحفيز الاستثمار والتنمية". وبالنسبة للتعامل مع تقلبات أحوال الطقس ومع الصعاب والمعاناة التي تعيشها الساكنة القروية والجبلية خلال فصل الشتاء، وعلاوة عن التدابير المتخذة، وبالإضافة إلى برامج التدخل وتقديم المساعدات والتنسيق اللازم بين مختلف المصالح، لابد من ربط كل هذا العمل بأفق دمج الموضوع ضمن توجهات النموذج التنموي الجديد. نفس الأمر بالنسبة لمسألة الديون والأحكام القضائية الصادرة ضد إدارات عمومية، حيث من المفروض الانتباه إلى المعطيات المنشورة حديثا، وذلك ليس فقط بتنفيذ الأحكام النهائية الصادرة في مواجهة الدولة، ولكن بالإسراع في التوجه رأسا نحو أسباب تزايد نسبة الدعاوى المرفوعة ضد المؤسسات العمومية، حتى يتم الحد من الإنهاك الذي تتعرض له خزينة الدولة والميزانية العامة، فأحسن وأنجع سبيل لضمان حقوق كل الأطراف هو الوفاء بالالتزامات وبقواعد دولة الحق والقانون. وتأسيسا على كل ما سبق تتقوى القناعة بأن للمغرب كل المؤهلات، السياسية والمؤسساتية والتدبيرية، لترسيخ وتعزيز المكتسبات والنجاحات والانتصارات المحققة، وذلك استنادا إلى الرؤية الملكية، واعتمادا على مقدرات البلاد وكفاءاتها وقواها السياسية المنخرطة في مسار الإصلاح والبناء، والقادرة على كسب رهانات المسلسل التنموي الذي لا يعرف التوقف.