في أجواء تخليد اليوم العالمي لحقوق الإنسان، تم خلال الأسبوع الماضي بالرباط إطلاق "الخطة الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان"، حيث قدم رئيس الحكومة محاورها وخطوطها العريضة التي تهم مجموعة من القطاعات الحكومية ذات العلاقة بالمجال الحقوقي. وإلى حد الآن تذهب كل التعاليق في اتجاه التنويه بإطلاق هذه الخطة التي طالما تطلعت كل مكونات الحقل الحقوقي إلى بلورتها وتفعيلها، والتي قال عنها رئيس الحكومة بأنها تجسد التزام الحكومة في برنامجها باعتماد سياسة حكومية مندمجة في مجال حقوق الإنسان وفق تخطيط استراتيجي تشاركي. وبالفعل، فإن الوصول إلى وضع هذه الخطة وإخراجها إلى حيز التطبيق، يعد خطوة جديدة لها أهميتها بالنسبة لترسيخ وتعزيز المكاسب التي تحققت في هذا المجال، لاسيما وأنها جاءت بعد حوارات ومشاورات واسعة مع مكونات المجتمع المدني ومختلف الفعاليات المعنية بقضايا حقوق الإنسان بكل تجلياتها وقيمها الكونية. بالطبع، إن الموضوع ليس وليد الساعة، إذ أن الدعوة إلى انخراط مختلف البلدان في صياغة خطط عمل متقدمة في المجال الحقوقي انطلقت، منذ سنة 1993، من المؤتمر العالمي حول حقوق الإنسان ب"فيينا"، ومنذ سنة 2008 شرع المغرب في إعداد خطته الوطنية، وهو العمل الذي امتد على مدى سنتين. ورغم كل الأحداث والتطورات السياسية التي عاشها المغرب منذ ذلك الحين، والتي ساهمت في تأخير إطلاق الخطة في حينه، فإن الفكرة لم تمت، والمشروع ظل قائما، بل إنه، ومنذ الشهور الأولى من الولاية الحكومية الحالية، كان هناك عمل دؤوب من أجل تهييء وتحيين الخطة الوطنية هاته، وبمساهمة فعاليات وهيئات حقوقية وغير حكومية. وقبل التطرق إلى مضامين الخطة في صيغتها الحالية وما تنطوي عليه من التزامات حكومية، فالحدث، في حد ذاته، له دلالات قوية ومجسدة لشجاعة المغرب وعمق توجهاته بخصوص قضايا حقوق الإنسان، ولعل من ذلك: * أن ورش حقوق الإنسان كان وما يزال، من العناوين الكبرى لمغرب العهد الجديد، وأن جلالة الملك محمد السادس ظل ويظل حريصا على التشبث بحقوق الإنسان في شموليتها، وضمان الحريات الفردية والجماعية في إطار دولة الحق والقانون، وهذا ما ركز عليه جلالته في خطاب 9 مارس الممهد لدستور 2011، بتأكيده على "ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، بكل أبعادها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والثقافية والبيئية، ولاسيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيئة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب". * أن وضعية حقوق الإنسان في المغرب عُِرفَ، منذ بداية الألفية الثالثة، تطورا مهما، لاسيما على مستوى التشريعات والحقوق المدنية والسياسية، وأيضا من جانب المشاركة السياسية والحريات العامة والفردية، ومن خلال المهام التي يضطلع بها المجلس الوطني لحقوق الإنسان وكذا أنشطة الهيئات الحقوقية. * أن التقدم الذي حققه المغرب في مجال حقوق الإنسان واقع يقر به المجتمع الدولي، كما حصل نهاية الأسبوع الماضي في البرلمان الأوروبي الذي صادق على التقرير السنوي (2016) حول حقوق الإنسان والديمقراطية، والذي "أشاد بالتقدم الملموس الذي حققته المملكة في مجال حقوق الإنسان"، وكما حصل أيضا في مجلس حقوق الإنسان ب"جنيف"، حيث نوهت الوفود الحاضرة ب "الجهود التي تبذلها المملكة من أجل تعزيز الديمقراطية التشاركية وإصلاح القضاء، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان وتوسيع فضاء الحريات". كما يظهر هذا التقدم أيضا من خلال اختيار المغرب ممثلا للقارة الإفريقية داخل اللجنة التابعة للتحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان. * أن تجربة المغرب في تجاوز ما عرف بسنوات الرصاص كانت تجربة رائدة سواء في جانبها الانتقالي أو في ما يهم توفير الآليات القانونية لحماية حقوق الإنسان، وفي هذا السياق، ومن خلال ما تم استعراضه من محاور الخطة المشار إليها، فإن الحكومة تلتزم بتسوية جميع ملفات جبر الضرر الفردي العالقة منذ هيئة الإنصاف والمصالحة. بالتأكيد، فإن كل ما سبق لا يعني عدم وجود تجاوزات وحالات محدودة هنا أو هناك، لكن الثابت أيضا هو أن التجاوزات أو الخروقات الممنهجة صارت من الماضي المتجاوز، بل إن التراكمات والمكتسبات التي تحققت في الحقل الحقوقي وفي البناء الديمقراطي والمؤسساتي بشكل عام، تضع مغرب اليوم على طريق الانتقال نحو وضع حقوقي متقدم. وعلى هذا الطريق يمكن القول إن خطة العمل الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، هي بمثابة التزام وخارطة طريق للعمل المقبل في هذا المجال، فهي تحتوي على 430 تدبيرا، ويمتد حيزها الزمني ما بين 2018 و2021، وتشتمل على 4 محاور رئيسية، من بين ما تتضمنه: المشاركة السياسية، والمساواة والمناصفة، والحكامة الإدارية والنزاهة، والحكامة الأمنية، وحرية الاجتماع والتجمهر، ومكافحة الإفلات من العقاب، الخ … وإذا انتبهنا إلى أن الخطة تضم أيضا ما يهم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وحماية الحقوق الفئوية والثقافية، تتبين أكثر فأكثر أهمية الموضوع الذي هو موضوع الأجيال الحالية واللاحقة والمجتمع برمته، ومن ثمة فإن هذا الورش الحقوقي المفتوح يعني العمل والإنجاز مع كل ما يتطلبه ذلك من توفير شروط وحظوظ النجاح. وفي نفس الأفق تطرح بعض القضايا التي ماتزال محل خلاف وتباين التقديرات، ومنها بالخصوص المتعلقة بمدونة الأسرة، وإلغاء عقوبة الإعدام، والحريات النقابية، والمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية منظمة العمل الدولية… ومن الهام أن يتم فتح حوار وطني واسع حول مثل هذه الإشكالات التي ينقسم حولها المجتمع المغربي، على أن يكون حوارا هادئا وهادفا، وأن تكون المشاركة فيه من منطلق السعي نحو الوصول إلى توافقات إيجابية تمكن من دعم وتوسيع المكتسبات الحقوقية، وذلك في نطاق الاختيار الديمقراطي والحداثي للبلاد، وبالالتفاف حول المضامين الإصلاحية التي تتقدم بها الخطة الحقوقية. وكما هو واضح من مضامين هذه الخطة، فإن الموضوع يتجاوز المفاهيم الضيقة أو المحدودة للشأن الحقوقي، لأن القضايا التي تتناولها والإشكالات التي تعالجها تعد من صميم المشروع المجتمعي المنصف والمبني على قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وضمان الحقوق والتوازن الاجتماعي والمجالي. لذلك، فإن إعمال وتنفيذ الخطة الوطنية في المجال الحقوقي ينبغي أن يكون محل اهتمام ومساهمة وانخراط مختلف القوى والفعاليات والأوساط المجتمعية، التي عليها، كل من موقعه وفي مجاله، العمل على أن تكون الحصيلة في مستوى الاختيارات الكبرى لهذا البلد وما يرفعه من تحديات في كل الواجهات، فالقضية الحقوقية تعد من المداخل الرئيسية إلى فضاء الدول الصاعدة.