بقدر ما تتقدم التجربة المغربية، بنموذجها الاقتصادي المنفتح وبخيارها الديمقراطي المتميز، بقدر ما تتركز عليها أعين الرصد والتتبع والمتابعة، التي كثيرا ما يليها طرح مجموعة من الأسئلة والتساؤلات التي قد لا تكون دائما "بريئة" أو نزيهة في موضوعها وغاياتها. وبعيدا عن أي نية في محاكمة النوايا، يمكن، بادئ ذي بدء، القول بأن ما تحظى به التجربة المغربية من متابعات وقراءات، من طرف الأوساط السياسية والإعلامية الوطنية والدولية، هي في حد ذاتها إشهاد على أهميتها وثقلها وقيمتها بالنسبة للتجارب الحديثة، والمقاربات الممكنة، في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية. على أن كل ما يمكن أن تحظى به هذه التجربة، أو هذا النموذج، من تقييم إيجابي، لا يعني بطبيعة الحال إحاطتها بأي نوع من الهالة التي تمنع القراءة النقدية والمراقبة الدقيقة لمسارها وما يمكن أن يصطدم به من صعاب ومشاكل موضوعية أو تدبيرية، سيما وأن المغرب أعطى الكثير من الأدلة على أنه دولة تعيش عصرها، وتتعايش بقناعة مع معطياتها ومع قيم الشفافية والحوار وربط المسؤولية بالمحاسبة. ولعل أقرب دليل أو مثل على ذلك هو ما أجمعت عليه جل وسائل الإعلام، في استعراضها أو تقييمها لأحداث السنة، التي ودعناها مع بداية هذا الأسبوع، مفاده أن أبرز ما طبع حصيلة سنة 2017، هو التطبيق الفعلي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة والحرص على إنجاز الأوراش التنموية في موعدها، وكل ذلك مع فتح الأبواب أمام المؤسسات والجهات الوطنية والدولية التي يهمها الاطلاع على النموذج الاقتصادي والتنموي للمغرب. ومع الحق المشروع في طرح كل الأسئلة والتساؤلات، وخارج الأحكام المسبقة والدوافع السياسوية وخلفياتها المغرضة، ووفقا لمنطق مقارنة الأقوال بالأرقام والمعطيات الملموسة، نورد هنا بعض المؤشرات الرقمية، والتي تقول: إن المندوبية السامية للتخطيط أعلنت، نهاية الأسبوع الماضي، أن نسبة النمو خلال الفصل الثالث، من سنة 2017، بلغت 3،8 بالمائة، عوض 3،1 بالمائة خلال الفترة نفسها من سنة 2016. إن مكتب الصرف أعلن أن تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالمغرب فاقت 22 مليار درهم خلال الأشهر ال 11 الأولى من سنة 2017، أي بارتفاع نسبته 6،14 بالمائة. إنه خلال الشهر الأخير من السنة المنتهية، وتحت رئاسة جلالة الملك، تم إطلاق 26 اتفاقية استثمار جديدة في قطاع صناعة السيارات، وهي الاتفاقيات التي ستجعل من المغرب منصة كبرى للتصدير في هذا المجال. إقرار 400 تدبير ضمن الخطة الوطنية للديمقراطية وحقوق الإنسان، تخص الحكامة الأمنية والترابية، والحقوق الفئوية وأوضاع الفئات الهشة. وبرغم ما لهذه المؤشرات من دلالات واضحة، فإنه يبقى من الطبيعي في الواقع المغربي، كما في غيره من البلدان، أن تبرز مظاهر التعبير عن القلق والاستياء الاجتماعي، وأن تحدث تحركات احتجاجية أو مطلبية بغاية تحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية، والحفاظ على التوازن الضروري على المستويين الاجتماعي والمجالي، ولذلك وجدت قنوات التحاور، كما الشأن بالنسبة لآلية الحوار الاجتماعي، وغيره من آليات الوساطة والتأطير. على أن دور هذه الآليات نفسها كثيرا ما يتحدد في تجنب الاصطدام بين الفرقاء أو الأطراف، وفتح المجال لكل المعالجات الممكنة، أو تهيئ الظروف لذلك من خلال مقاربات جدية وموضوعية، وفي ظل الاستقرار والحوار الجدي والمسؤول. أما المعالجة الجوهرية للاختلالات والتفاوتات الاجتماعية والفئوية، فإن الوصول إليها يتم عبر سياسات إستراتيجية متكاملة ومنسجمة بين ما هو اقتصادي وما هو تنموي اجتماعي، وعلى هذا المستوى فالمغرب له كل حظوظ التقدم والنجاح في معالجة قضاياه وإشكالاته الاجتماعية، لاسيما وأنه مسنود في ذلك بتطور المسلسل الديمقراطي الذي كرسه دستور 2011، وبالخطب الملكية التي كانت بالغة الوضوح في التأكيد على العمل من أجل ردم هوة التفاوتات الاجتماعية والمجالية، وتحقيق الإنصاف والتجاوب مع مطالب وحاجيات المواطنين في كل أقاليم وجهات البلاد. ولعل آخر تنبيه من جلالة الملك، بهذا الخصوص، كان من خلال رسالة جلالته السامية إلى المشاركين في أشغال المنتدى الوزاري الثاني للإسكان والتنمية الحضرية، وهي الرسالة التي نبهت إلى أن "التحولات على مستوى الحياة الحضرية، سيساهم في ظهور فوارق اجتماعية ومجالية داخل المدن عامة، وفي الحواضر الكبرى خاصة، مما يساعد على بروز فضاءات هامشية تشكو من ندرة المرافق الضرورية، وضعف البنيات التحتية، وعدم تأمين الخدمات الحضرية الأساسية، مما يهدد التماسك الاجتماعي والاندماج الحضري". ومن هنا، فإن تحصين المجتمع ومساره التنموي من تداعيات الاختلالات الملغومة، يكمن في الأخذ بقواعد التنمية المتوازنة والمستدامة، حتى يتكامل النشاط الاقتصادي مع غيره من الأنشطة الاجتماعية، وبما يجعل المؤشرات والنتائج الاقتصادية الإيجابية ذات تأثير ملموس على الأوضاع الاجتماعية وظروف ومستوى عيش الساكنة. واليوم، وأكثر من أي وقت مضي، يتوفر المغرب على كل العناصر والدعائم الملائمة لبلورة وإنجاح سياسة تنموية متوازنة في تفاعل يقظ مع بقية دوائر النسيج الاقتصادي الوطني، بل إن الاختيارات الكبرى للبلاد ومشروعها المجتمعي تجعل التنمية المتوازنة وفلسفتها الاجتماعية في قلب رهاناتها، وكأمثلة ملموسة يمكن أن نسوق هنا: * ورش الجهوية المتقدمة، الذي قيل عنه الكثير، والذي هو جدير فعلا بكل ما دار حوله من نقاشات وحوارات، لأنه ورش أساسي لتعبئة الإمكانيات وتفجير الطاقات الحية والمتوفرة عبر كل التراب الوطني، ورش أيضا للعمل بقيم التضامن بين الجماعات الترابية، والعمل بسياسة القرب والنهوض بالأوضاع المحلية والاجتماعية. * النموذج التنموي الجديد الذي دعا جلالة الملك إلى صياغته، بمنهجية تشاركية، وبما يجعله قادرا على الاستجابة لانتظارات المواطنين، والتقليص من الفوارق الاجتماعية والمجالية. الاسبقيات المدرجة ضمن قانون المالية للسنة الجديدة، والتي تهم التركيز على دعم القطاعات الاجتماعية (التعليم والصحة والتشغيل وتقليص الفوارق المجالية)، مع إعطاء اهتمام خاص للعالم القروي. ومع توفر هذه العناصر المشجعة، والمستمدة من التوجهات والخيارات الكبرى، يبقى العمل والتطبيق هو أكبر اختبار للقدرة على ربح رهان التنمية المتوازنة والمستدامة، ولأنه رهان حاسم، في الإجابة عن كل الأسئلة والتساؤلات، فلا مجال لأي تهاون أو أي تراجع. نعم، كل المؤسسات، وكل من موقعه.. الجميع في معركة الالتزام بموعد بلورة الأهداف وإنجاز المشاريع، معركة ربح رهان التنمية المتوازنة والمنصفة فهي الكفيلة بإنهاء كل الاختلالات، وهي عماد الاستقرار والتحفيز على رفع تحديات جديدة.