يلاحظ، ومنذ مدة، سواء تعلق الأمر ببعض القرارات الحكومية أو بالمناخ السياسي العام في البلاد، أن بعض الأصوات والتعاليق كثيرا ما تجعل المتتبع في حيرة من أمره عندما تغالي في التأويلات، وحتى (التهويلات)، التي تعطى لبعض الأحداث السياسية، الوطنية والحزبية أكثر من حجمها أو تضعها في سياق غير سياقها الحقيقي، وقد تستمر هذه الأصوات والجهات في إطلاق أوصاف وعناوين مثيرة على الوضع السياسي في البلاد، من قبيل (العواصف)، (الانهيار)، (التفكك ) و(الانفجار) إلخ .. ولا ينحصر هذا (الإبداع) في ما يخص الخطاب السياسي، وتناقضات وتجاذبات أطراف العملية السياسية، بل يمتد نحو بعض القرارات التي تندرج ضمن تطبيق البرنامج الحكومي، في مجموعة من القطاعات، ومنها بالخصوص، مثلا، إصلاح صندوق المقاصة، تعويم الدرهم، سوق المحروقات بعد تحرير أسعارها، ملف التعليم، التعاطي مع قضايا مهنيي بعض القطاعات الحيوية…، حيث تقدم في بعض الأحيان وكأنها تدار بالعشوائية أو بكيفية مزاجية. وللتوضيح والتدقيق، نسارع إلى القول بأن تسجيل هذه الملاحظات لا يعني، قطعا، مناقشة مبدأ وحق كل الجهات، سياسية كانت أم إعلامية، في بسط وجهات نظرها بشأن كل صغيرة أو كبيرة تهم الشأن العام أو المشهد السياسي، وفي ممارسة النقد الموضوعي والبناء والمسؤول تجاه كل متدخل من المتدخلين في الشأن العام ومؤسساته، فقط أن ما يدفع نحو محاولة طرق الموضوع هو ما تثيره موجة التأويل -أو التهويل أحيانا- هاته من أسئلة، لدى المتتبعين وعموم المواطنين، ولعل من أهم التساؤلات التي تطرح: *هل المغرب بنموذجه الحالي، وبالإطار المحدد لمؤسساته التشريعية والتنفيذية، يشكو من اختلالات سياسية أو تنظيمية مناقضة أو متعارضة مع دستوره المعمول به منذ 2011، بقيمه الوطنية والكونية؟. *هل المغرب يشكو نوعا من (الفراغ) أو ضعفا في مؤسساته، أو في مقدراته ومؤهلاته على تحقيق الرهانات والتصدي لتحديات استكمال بنائه الديمقراطي واحتلال مكانته المستحقة ضمن نادي الديمقراطيات المتقدمة؟. فبالنسبة للسؤال الأول، هناك شبه إجماع على أن دستور 2011 كان نقلة نوعية، وأن سقفه من الإصلاحات الديمقراطية كان من الأهمية بمكان، وفي تناغم مع مقتضياته، وعلى المستوى الحكومي يتم الآن تدبير ملفات المرحلة بكل تعقيداتها وضخامتها، وذلك في نطاق، لابد من الانتباه إلى طبيعته، وهو نطاق التحالف أو الائتلاف بين مكونات الأغلبية، الذي يعني التفاف مكونات هذا الائتلاف حول برنامج مشترك يتم التوافق بشأنه، قبل مصادقة البرلمان عليه. ونعتقد أن المنطق الذي يحكم أي عمل حكومي، هو منطق الائتلاف والتوافق حول أفضل السبل لخدمة الوطن والمواطنين، وتحقيق التزامات البرنامج الحكومي، وذلك استنادا إلى خيار التعددية الحزبية، وهي تعددية لا تعني بالضرورة التنافر، بقدر ما يمكن أن تعطي الكثير في إغناء العمل المشترك الذي لا ينفي هو الآخر وجود الرأي المخالف أو الاقتراح البديل. وفي غمرة ما يمكن أن يحصل من مستجدات ونقاشات وتفاعلات سياسية، فهنا يحضر دور رئيس الحكومة والقيادات الحزبية بنظرتها الشمولية والاستراتيجية التي تركز على معالجة المواضيع المطروحة بما ينسجم مع التوجه العام ومع مصلحة الوطن وانتظارات المواطنين، وبهذا المنطق أخذت مجموعة من المشاريع والأوراش طريقها إلى الإنجاز الفعلي، سواء على المستوى الميداني أو في مجال التشريع. كما لا يمكن تجاهل الواقع المتحرك والمتطور، والذي يجعل لبنات المجتمع المغربي تعرف تحولات متسارعة، في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، وهذا التطور لابد وأن يكون له تأثيره المباشر أيضا على الحقل السياسي عموما، بما في ذلك بعض المفاهيم التقليدية في الحياة السياسية والحزبية التي لم تعد تقبل أو تحتمل أساليب الدس والتهويل، والتي لا مفر من إعادة ترتيب ضوابطها وأخلاقياتها على أساس الوضوح والتعامل المسؤول والثقة المبنية على احترام الجميع للثوابت الوطنية والدينية. أما مقاربة السؤال الثاني، فتقتضي، قبل كل شيء، استحضار كون مغرب ما بعد الاستقلال واجه مخططين جهنميين كانا يستهدفانه في عمقه، الأول يتعلق بوحدته الترابية بعد استرجاع أقاليمه الجنوبية، والثاني يتمثل في المشروع الإرهابي المقيت، الذي عمل على تجنيد العشرات والعشرات من شبكاته وخلاياه لضرب المغرب والعبث بأمنه واستقراره. والثابت الآن، وبرغم كل الأساليب والمناورات الرهيبة التي حيكت ضد المغرب، فإن هذا الأخير لم يتزعزع، ولم تخترق جبهته الداخلية ووحدته الوطنية، بل إن هذه الوحدة الوطنية اليقظة كانت هي الصخرة التي تتحطم عليها كل المؤامرات الخارجية و(الأزمات) المفتعلة، وهذا فيه جزء كبير من الجواب، وهو ما يفيد بالواضح أن المغرب قائم وقوي بمؤسساته الكاملة والمتكاملة، ولا مجال للكلام عن أي فراغ على هذا المستوى. فقبل المؤسسات التشريعية والحكومية، هناك المؤسسة الملكية التي تعطي للمغرب حصانته ومناعته، وبمهامها وصلاحياتها الدستورية، فإن المؤسسة الملكية المواطنة، هي اليوم، تجسيد فعلي لضمان حسن سير المؤسسات واستمرارية الدولة. وإن نسي المرء، فلا يمكن أن ينسى أن تظاهرات وحشود المواطنين، التي خرجت إلى ساحات وشوارع الدارالبيضاء وغيرها، إثر وفاة المغفور له جلالة الملك محمد الخامس سنة 1961، كان شعارها التلقائي هو :"الله يرحم محمد الخامس ..الله ينصر الحسن الثاني"، وأن مكونات الأمة المغربية ورموزها سارعت، بنفس التلقائية والإيمان وبسلاسة، عقب وفاة المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، إلى مبايعة سيدي محمد بن الحسن والتعبير عن تمسكها المتين بالعرش العلوي المجيد. وفي عهد الملكية المواطنة لم تعد المؤسسات العامة تنحصر في الهيئات الرسمية والمرتبطة بهياكل الدولة، فبالإضافة إلى الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية هناك فعاليات المجتمع الأخرى، ومنها بالذات مكونات المجتمع المدني التي نوه بها الخطاب الملكي، في الجلسة الافتتاحية للبرلمان سنة 2014، بقول جلالته: "المغرب في حاجة لكل أبنائه ولجميع القوى الحية والمؤثرة، وخاصة هيئات المجتمع المدني التي ما فتئنا نشجع مبادراتها الجادة اعتبارا لدورها الإيجابي كسلطة مضادة وقوة اقتراحية تساهم في النقد البناء وتوازن السلط". وعلى وقع دينامية المجتمع المغربي مع بداية الألفية الثالثة، اجتاز المغرب محطات ومنعرجات سياسية واقتصادية وأمنية بتفوق وبنجاح غير متاح لغيره، ولا يمكن أن تفلح في ذلك إلا الدول التي تتوفر لها مؤسسات أصيلة ومبادرة تجمع بين العراقة والحداثة، ومنفتحة على مجتمعاتها وعلى طموحات مواطنيها في التقدم والرفاه، والأكيد أن المغرب في هذه الحالة غير معني بالأسئلة السابقة الذكر، ولا يمكن أن يكون معنيا بذلك مادام حاملا لخياره الديمقراطي بنفسه الإصلاحي الطموح وبتوجهاته الإستراتيجية الكبرى. وكما هو الشأن في كل المجالات، فإن رسم التوجهات وتحديد الأهداف الإستراتيجية، إنما يتبعه تحديد الوسائل وتوفير الإمكانيات والموارد الضرورية، وما يتبع ذلك من تعبئة وحكامة جيدة في التدبير والتنفيذ، ومن ربط المسؤولية بالمحاسبة. وفي غمار الاضطلاع بهذه المسؤوليات من الطبيعي أن تحدث تباينات في وجهات النظر بين الأطراف المسؤولة وفي تقديرها لهذا الأمر أو ذاك. وبهذا الصدد معروفة هي بعض القضايا التي تحدثت عنها الصحافة بأكثر من صيغة، كموضوع صناديق التقاعد، وصندوق تنمية العالم القروي، وبعض التصريحات المتشنجة والمتسرعة، والإصلاحات الخاصة ببعض القطاعات…، وماذا بعد؟ هل هناك من أعلن تخليه عن مسؤوليته أو موقعه؟ لا، لاشيء وقع من هذا القبيل، ولن يقع لأن الطريق مازال سالكا من أجل الاستمرار في الإصلاحات الكبرى في بناء الأوراش. ويبقى أن الخطاب المسؤول والموقف النابع من الروح والغيرة الوطنية، هو المطلوب من جميع الفرقاء والفاعلين، سياسيين كانوا أو إعلاميين أو غيرهم، لأن مصلحة الوطن تقتضي ذلك وتدعو الجميع إلى الالتزام به.