كان الحدث البارز، خلال الأسبوع الماضي- من كل الزوايا، وبكل المقاييس-، هو عودة جلالة الملك إلى أرض الوطن، حيث تفضل برئاسة مجلس وزاري، الذي تمت خلاله المصادقة على مجموعة من النصوص القانونية والاتفاقيات الدولية. وفي بداية أشغال هذا المجلس، استفسر جلالة الملك السيد وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات عن الوضعية الفلاحية في المملكة. كما استقبل جلالة الملك، بالقصر الملكي بالرباط، كلا من رئيس الحكومة، ووزير الداخلية، ووزير الاقتصاد والمالية، بحضور مستشاري صاحب الجلالة فؤاد عالي الهمة وياسر الزناكي، وكان موضوع الاستقبال يهم رفع مقترحات الحكومة بخصوص إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار إلى مقام جلالة الملك، وفي اليوم الموالي كانت رحاب القصر الملكي تستقبل عددا هاما من السفراء الذين تسلموا من جلالته أوراق اعتمادهم لدى مجموعة من الدول والمنظمات الدولية. عنوانان أو موضوعان نموذجيان يحملان دلالات قوية على مستوى المبادرة والتتبع، وأيضا في كل ما يهم شروط مواصلة العمل بالأوراش المفتوحة وفي المشاريع التي تهم تنمية البلاد والتصدي لتحديات المرحلة وطنيا وقاريا. إن استفسار جلالة الملك عن الحالة الفلاحية في المملكة معناه استحضار حجم المكانة التي يحتلها هذا القطاع في النسيج الاقتصادي وتنوع الإنتاج الوطني، وما لذلك من أثر على وتيرة أو نسب النمو، وإن كان الوزير المشرف على القطاع قد "أكد لجلالة الملك، نصره الله، الظروف الجيدة التي يعرفها الموسم الفلاحي الحالي والانعكاسات الإيجابية للتساقطات المطرية والثلجية على مخزون السدود والفرشة المائية"، فإن المعطيات والأرقام الدقيقة المنتظر جمعها، والمؤشرات المتوفرة، من المرجح أن تؤكد تحقق النتائج الإيجابية المشار إليها، والتي يمكن أن تتجاوز 100 مليون قنطار من محصول الحبوب. فللمغرب كامل المؤهلات والأسباب التي تمكنه من مواصلة تحسين مردودية قطاعه الفلاحي، فبغض النظر عن العوامل المناخية، هناك المجهود الذي بذل من أجل زيادة المساحات المزروعة وتحسين الإنتاجية، وغير ذلك مما يوفر لاستدامة الفلاحة المغربية عبر استراتيجيات متواصلة من سياسة السدود إلى مخطط (المغرب الأخضر) وإلى المخططات الفلاحية الجهوية. طبعا، انتظارات المغاربة من القطاع لا تنحصر في نتائجه المرضية من محصول الحبوب وأثره الإيجابي بالنسبة لحياة الفلاحين، ولكن أيضا الفلاحة المغربية تعني، ويجب أن تعني، ضمان الأمن الغذائي للمغاربة.. أي المزيد من الرفع من إنتاجية البواكر والحوامض، وتحسين وضعية الصادرات وقدرتها التنافسية.. وأيضا العناية بتربية المواشي والدواجن وإنتاج اللحوم.. والإسهام في الرفع من دخل الفلاح الفقير وكل المرتبطين بالقطاع.. والنهوض بالعالم القروي وتحسين ظروف عيش ساكنته… كل هذه المطامح والانشغالات هي الكامنة وراء الاستفسار الملكي عن وضعية الفلاحة في المملكة. كما أن موضوع إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار لا يخرج عن حرص جلالة الملك على جعل كل الإدارات والمؤسسات العمومية تؤدي مهمتها بفعالية كاملة، وإن كانت المجالس الجهوية للاستثمار كفكرة ومشروع تحتفظ بكل أهميتها ووجاهتها، فإن الممارسة والتأطير قد لا ينجوان دائما من الأخطاء وسوء التدبير، وهذا ما لاحظه جلالة الملك ونبه إليه في خطاب العرش (السنة الماضية)، حيث أوضح جلالته قائلا: "إن من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب هو ضعف الإدارة العمومية، سواء من حيث الحكامة، أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات، التي تقدمها للمواطنين، وعلى سبيل المثال، فإن المراكز الجهوية للاستثمار تعد، باستثناء مركز أو اثنين، مشكلة وعائقا أمام عملية الاستثمار، عوض أن تشكل آلية للتحفيز، ولحل مشاكل المستثمرين، على المستوى الجهوي، دون الحاجة للتنقل إلى الإدارة المركزية، وهو ما ينعكس سلبا على المناطق، التي تعاني من ضعف الاستثمار، وأحيانا من انعدامه، ومن تدني مردودية القطاع العام، مما يؤثر على ظروف عيش المواطنين". هكذا كان موضوع التنبيه الملكي محل الجدية اللازمة، والمتابعة العملية، التي أنتجت مقترحات إصلاح شامل للمجالس الجهوية للاستثمار، وذلك، وكما دعا الخطاب الملكي لذلك، عبر مقاربة تشاركية مع مختلف القطاعات المعنية، ومن خلال مضامين ومحاور مشروع الإصلاح نلامس مقتضيات ومراجعات أساسية، ومنها: *المحور الأول، ويتعلق بإعادة هيكلة المراكز الجهوية للاستثمار، بالارتكاز على تحويل هذه المراكز إلى مؤسسات عمومية مع اعتماد حكامة تشاركية ومنفتحة على مختلف الفاعلين، مع توسيع نطاق مهامها واختصاصاتها، والمواكبة الشاملة للمقاولات الصغرى والمتوسطة… * المحور الثاني، ويتعلق بإحداث اللجنة الجهوية الموحدة للاستثمار، حيث يقترح دمج كافة اللجن الجهوية السابقة في لجنة جهوية موحدة بهدف تحسين وملاءمة مساطر اتخاذ القرار… * المحور الثالث، ويهم تبسيط المساطر والإجراءات المتعلقة بملفات الاستثمار على المستويين الجهوي والمركزي، بالإضافة إلى اعتماد قوانين ومقاربات محفزة حديثة على المستوى المركزي ومكافحة التعسفات والبيروقراطية الإدارية… من خلال هذه المقتضيات وغيرها، يتضح أن المشروع يروم الانتقال بالمراكز الجهوية للاستثمار إلى وضعية جديدة، وضعية تعطيها الدينامية اللازمة وتمكن من تجويد الأداء، والارتقاء بدورها في ضمان بيئة اقتصادية ملائمة للاستثمار، وكل ذلك في تناسق وتكامل مع القرارات والمؤسسات الأخرى المعنية بالاستثمار، كقرار إحداث الوكالة المغربية للاستثمار، والقوانين الخاصة بتعزيز الاستثمار، والقرار الضريبي المحدد لنسبة صفر بالمائة بالنسبة للمقاولات الصناعية الموجودة في طور التكوين. هكذا ومن هذه الأنشطة الملكية المكثفة، نحصل على خلاصات أساسية بليغة، تهم مسار البلاد وتوجهها العام وعلى كل الواجهات، ومن بين هذه الخلاصات، يبرز الآتي: * أنه إذا كانت للمغرب مشاكله التدبيرية وتحدياته الاقتصادية والتنموية، فإن للمغرب أيضا مؤسساته، وفي مقدمتها المؤسسة الملكية، الفاعلة والقادرة على التصدي لكل الصعاب ومعالجة كل المشاكل وبما يمكن البلاد من النجاح في تحقيق الأهداف المرسومة. * أن التحديات الكبرى المتمثلة في قضية الوحدة الترابية، وترسيخ الخيار الديمقراطي، هي محل إجماع وطني متين وموضوع تعبئة دائمة لكل الطاقات والقوى الوطنية. * أن المهام الإصلاحية التي طرحتها الخطب الملكية، ومنها النموذج التنموي الجديد، إصلاح الإدارة، ربط المسؤولية بالمحاسبة، تعزيز آليات الاستثمار، وتنزيل الجهوية المتقدمة واللاتمركز، هي من الرهانات الأساسية التي لا مجال معها للبطء أو التماطل، كما أنها من المسؤوليات التي لا تقبل التردد أو الانتظارية. ومع كل ما يوازي القناعة بصواب الاختيار من ثقة وتفاؤل، لابد أيضا من اليقظة الدائمة، ومن توفر المستلزمات الضرورية للقيام بهذه المهام، ومن هذه المستلزمات تلك التي تحث عليها التوجيهات الملكية، من حكامة جيدة، والتحلي بالنزاهة والاستقامة، والتوفر على أفضل الأطر والكفاءات، والتشبع بالالتزام الوطني، وتعبئة النخب القادرة على تحمل المسؤولية وتنزيل المخططات والبرامج على أرض الواقع الملموس. وإلى جانب القضايا الوطنية والداخلية، تأتي قضايا القارة الإفريقية ضمن أولويات اهتمامات جلالة الملك، لذلك فالمغرب يولي عناية خاصة للقمة الأولى لرؤساء الدول والحكومات للجنة المناخ لحوض الكونغو، التي تفتتح أشغالها يومه الأربعاء بالعاصمة الكونغولية برازافيل، هذا الاهتمام يعتبر رسالة واضحة، لكل من يعنيه الأمر، رسالة تفيد بأن المغرب مصر كل الإصرار على تبوإ مكانته المتميزة داخل عمقه الإفريقي، وأنه حريص كل الحرص على سياسته التضامنية مع شعوب القارة، وعلى الوفاء بالتزاماته القارية والدولية، وعلى الدفاع المستميت عن وحدته الترابية ومصالحه الوطنية المشروعة.