مقتطف من يوميات أستاذ في الجبل مهداة إلى عائلة أيت إيشو بدوار إمزيلن)إغيل نمكون( انتهت العطلة الصيفية فأضحى لزاما عليه أن يلم حقائبه و يجمع لوازمه للالتحاق بالعمل بشكل رسمي و نهائي في المؤسسة التي عين بها. وصل ثلاثاء أيت حمد الواقعة في مركز إغيل نمكون في وقت بدأ فيه الليل يرخي سدوله على الكون,صمت مطبق,لا صوت و لا حركة,اللهم إلا نباح كلاب هنا و هناك.أنزل أمتعته وبقي شارد الذهن,حائر الخاطر,متسائلا في دخيلة نفسه,إلى أين ألجأ في هذه الليل و في هذه البلاد حيث لا أعرف أحدا ولم أكتر بعد بيتا آوي إليه؟ في طريقه من قلعة مكونة إلى إغيل نمكون,كان قد ركب معه رجل خمسيني يعمل حدادا,بعد وصولهما دعاه للعشاء و المبيت عنده إلى أن يحل الصباح ثم يبحث له عن كراء. قبل الدعوة لكنه استمهل صاحبها حتى يزور عاملا بالفران كان قد وعده عندما جاء أول مرة لتوقيع محضر الالتحاق أن يجد له كراء. بعد ضغطه على زر الجرس عند الباب,خرج فاسكا متثاقلا,مغلوبا بالنوم,بجسده النحيل و أنفه الأفطس,شعره أشعث و عيناه جاحظتان,لا يكاد يرى وجهه الأسمر في هذا الليل المدلهم. -السلام عليكم -وعليكم السلام,أهلا السي الأستاذ. -أهلا فاسكا,كيف الحال؟ -بخير و الحمد لله و أنت؟ -الحمد لله. -يبدو أنك وصلت لتوك -نعم,هو ذاك,وها أنذا جئت أستفسرك عن الكراء الذي كنا قد تناقشنا حوله فيما سبق. -آه...سأتحدث مع الحاج فورا. هاتف الحاج,صاحب المنزل,موضحا له بأن الأستاذ الجديد ليس له مكان يركن إليه في ليلته تلك,فطلب منه أن يبعثه إليه مع ابن أخيه ليبيت عنده و في الصباح يحن الله فيما يخص الكراء. في الطريق سأل مرافقه عن اسم الدوار الذي يقصدانه: -ما اسم دواركم؟ -إمزيلن -أعرف السبب في تسميته -أحقا؟ -يبدو أن أجدادكم كانوا يحترفون الحدادة -لم يقتصر ذلك على أجدادنا و لا حد عندهم,بل آباؤنا و نحن أيضا ما زلنا نحيا بشعار حرفة جدك لا يغلبوك . اكتشف فيما بعد أن أهل هذا الدوار يتقنون صناعة نعال البغال و المناجل و الفخاخ...منهم من طور مهنة أجداده و أبائه إلى أوراش للحدادة العصرية السودور . وصل بيت الحاج فرحب به أيما يكون الترحاب,وأدخله إلى غرفة الضيوف ثم شرعا يتبادلان أطراف الحديث بكل عفوية و بلا مجاملة و لا برتوكولات مسبقة على عادة الأمازيغ الجبليين. -من أين أنت؟ -من الرشيدية -أوعطا؟ -نعم أوعطا -لقد حزرت ذلك من كلامك.وتابع: -مرحبا بك,البيت بيتك. -الله إرحم الوالدين أعمي الحاج. وببساطة القرويين انطلق الحاج في الحديث,لا يوقفه إلا قضمات كاوكاو يقضمها,أو شربات شاي يرتشفها. -هل تعلم,أقسم لك أني أفرح عندما أستقبل ضيفا في بيتي,كل ضيف هو بشرى للخير,هذه الغرفة لا ندخلها إلا إذا كان عندنا ضيف,العسل الحر ندخره للضيوف,أرأيت كم نحن محظوظون,لو لم تكن معنا الليلة هل كنا لنلج هذه الغرفة و هل كنا لنأكل العسل الحر؟ -لقد عشت الغربة و خبرتها,أعرف شعور الغريب وهو بعيد عن بلده,لقد عشت في فرنسا ما يربو عن ثلاثين سنة ومازلت أتذكر أول يوم لي في Perpigan. مر الوقت سريعا وهما يتمازحان و يضحكان والحاج يعرج من موضوع إلى موضوع ومن حديث إلى حديث على نغمات الشاي المنكه بالنعناع و الزعتر المحلي. تناولا العشاء,كسكس بالقرع مما تنبته أرض إمزيلن,تلاه طبق من التين و الخوخ المجلوب من حقول الدوار,ثم نام نوما هنيئا لم يعكر صفوه شيء,و هكذا حلت عقدة ليلته الأولى في الجبل وغدا يوم آخر من يومياته!.