على عكس ما كان يتمناه منظمو "طنجاز" علنا وغيرهم من الزاحفين زحفا نحو التطبيع سرا، لم يمر حضور المجندة الإسرائيلية سابقا وعازفة الجاز حاليا، نوعام فازانا، وكأنه حدث طبيعي، وثبت للفرنسي المتعالي جدا فيليب لوران مدير المهرجان، الذي وصف دعوات طرد ضيفته الإسرائيلية ومقاطعة حفلها ب"السخيفة" أن السخيف حقا هو كيفية تعامله مع الاحتجاجات، وهو الموقف "البايخ" الذي وجد نفسه فيه وهو يحاول نفي الجنسية الإسرائيلية عن فازانا مدعيا أنها هولندية، وكأن الجنسية المزدوجة أمر غريب عن الإسرائيليين، لكن أكثر ورطاته سخافة كان هي اضطراره لاستدعاء العاملين معه لملئ الكراسي بقصر السلطان عبد الحفيظ بعدما وجدت عازفة الجاز نفسها تُطرب الهواء. لكن منظمي "طنجاز" رغم ذلك لم يكونوا وحدهم في مواجهة الغاضبين من هذه الخطوة التطبيعية المفضوحة، فبمنطق "المستفيد سرا" أو بمنطق "كاري حنكو" أو حتى بمنطق "المعارضة من أجل المعارضة" وقف بعض المغاربة في صف واحد مع فيليب لوران فلم يسلموا من العاصفة، ليس فقط لأنهم باركوا خطوة التطبيع، ولكن أيضا لأن المبررات التي ساقوها، كانت حقا سخيفة، سبعٌ منها تستحق رغم ذلك تبيان خطئها، أما غيرها فلا تستحق سوى السخرية. أولى هذه المبررات السبعة القول بأن نوعام فازانا حلت بطنجة بصفتها فنانة، وقضية فلسطين قضية سياسية، ويبدو أن هؤلاء لا يعلمون أن هتلر كان رساما واعدا في فيينا ولا زالت لوحاته محط اهتمام كبار الفنانين والنقاد إلى اليوم، أما كيم جونغ إيل، زعيم كوريا الشمالية الراحل، فقد كان مهووسا بالسينما لدرجة أنه سنة 1978 اختطف المخرج كوريا شهيرا وزوجته الممثلة لمدة 5 سنوات كاملة، بسبب لإعجابه الشديد بهما... ورغم ذلك لا يمكن أن نقول إن حب الفن يَجُبُّ لهذين المخبولين جرائمهما، الأمر نفسه ينسحب على المجندة الإسرائيلية التي لا يعقل أن نتناسى أنها شاركت في جرائم بشعة بالضفة الغربية لمجرد أنها تحولت لعازفة جاز. أما القول بفصل الفن عن السياسية، فكلام يدعو للسخرية إذ إن الفن كان ولا يزال وسيلة لجميع الأنظمة السياسية عبر العالم لتبييض وجهها، وإسرائيل مثال حي على ذلك ومن لم يصدق فما عليه سوى أن يعود لما كشفت عنه حركة BDS الدولية المناهضة للتطبيع والتي أكدت أن فازانا تلقت طيلة 6 سنوات أموالا من منظمات تابعة للوبي الصهيوني من أجل تلميع صورة الاحتلال. المبرر الثاني الذي ساقه هؤلاء هو أن هذه "الفنانة" من أصول مغربية، وبالتالي من حقها زيارة بلد أجدادها، وبغض النظر مدى صحة عن هذه المعلومة أو فبركتها، ولاسيما أن العازفة نفسها لم تؤكدها، فإن هذا ليس مبررا لتناسي جرائمها في صفوف جيش الاحتلال، وإلا فعلينا أن نفتح أذرعنا لنضم الخونة الذين كانوا يتعاملون مع الاستعمار والمتطرفين الذين التحقوا بداعش فهم في النهاية مغاربة من أب وأم مغربيين. أما ثالث المبررات التي ساقها هؤلاء وفي مقدمتهم مدير المهرجان، فهو أن هذه العازفة هولندية لا إسرائيلية، وهذا المبرر مثير للسخيرة، لأن نوعام فازانا نفسها تقدم نفسها على أنها إسرائيلية، وهي الصفة التي تقابل اسمها على إعلانات جميع المهرجانات والحفلات التي شاركت فيها. ومضى آخرون إلى "ابتكار" مبرر رابع، حين قالوا إنها لم تقبل بالتجنيد ودفعت غرامة من أجل ذلك، وهو ليس فقط كلاما يبرز المأزق الذي وضع دعاة التطبيع أنفسهم فيه، بل أيضا يظهر أن هؤلاء أخطؤوا حين احتقروا إمكانيات الرافضين لمجيء المجندة الإسرائيلية، فحركة BDS التي يتزعمها في المغرب حقوقي ومناضل يقام له ويقعد وهو سيون أسيدون، لم تكتف فقط بالكشف عن المركز العسكري الذي اشتغلت به وهو سلاح الجو الإسرائيلي، بل كشفت أيضا عن سنة عملها في الجيش وهي سنة 2000 أي خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية. أما مجموعة أخرى من المدافعين عن استضافة فازانا فلم تجد أي مبرر آخر سوى ترديد لحن "المغرب بلد التسامح"، دون أن تعي أن هذا المبرر الخامس سبب وجيه جدا لعدم استضافتها، فكيف لبلد متسامح أن يحتضن ممثلة عن جيش يصنف وفق القانون الدولي ضمن جيوش الاحتلال ومتورط في جرائم حرب يشيب لها الولدان. وأما سادس المبررات فلا يخلو من نذالة، فهؤلاء الذين يرددون عبارة "حنا ما شغلناش ففلسطين" ما عليهم سوى أن يعيشوا على جزيرة مهجورة، بعيدا عن قضايا الإنسان كلها، فلا يصدعوا رؤوسهم لا بفلسطين ولا بورما ولا العراق ولا سوريا ولا بالهجمات الإرهابية التي ضربت فرنسا وبريطانيا وإسبانيا.. فليعيشوا مع أنفسهم ولأنفسهم إن استطاعوا لذلك سبيلا. وختام المبررات السبع هو لازمة "آش قضيتوا" التي يرددها بعض المتفرجين الفالحين فقط في رياضة "الكريتيك"، لهؤلاء نقول: صحيح أن دعاة التطبيع وعلى رأسهم أيتام خالتي فرنسا أكثر أموالا ونفوذا، وصحيح أن المجندة الإسرائيلية دخلت المغرب وأقامت فيه وأحيت حفلها، لكن يكفي مشهد الكراسي الخالية التي وقفت أمامها والأعلام التي الفلسطينية التي رفعت وسط الحفلة والاحتجاجات اليومية التي حاصرت مكان الحفل، ليُسحب لمناهضي التطبيع انتصار تاريخي. عموما، في بلد استشهد بعض من أبنائه من أجل القضية الفلسطينية ويتزعم ملكه لجنة القدس وتربى أبناؤه على أن هذه القضيةَ قضيةٌ وطنية، يبدو أن مطلب وضع قانون يُجرم التطبيع ويُبين وجوهه صار مطلبا منطقيا، وعلى البرلمانيين الذين يسارعون لإبداء رفضهم لهذه الممارسة نظريا أن يتحلوا بالشجاعة للمضي قدما في ذلك عمليا. *جريدة المساء