عندما تجندت أوربا لاستعمار دول العالم الضعيفة وكان المغرب من بينها، فإنها لم تكتفي بالقوة العسكرية وحدها لهذه المهمة، بل جندت كل رجالها من كل الميادين، كالأطباء والكتاب والباحثين، والعلماء وغيرهم من الرجال الذين ما يميزهم عدم ارتدائهم للبزّة العسكرية. وفي أوائل القرن العشرين لم يكن المغرب قد دخل تحت نظام الحماية بعد، لكن المساعي كانت سائرة في هذا المنحى وبخطوات ثابتة، وكانت طنجة هي مسرح هذه المساعي باعتبارها المدينة الديبلوماسية للمغرب حيث تتواجد الهيآت القنصلية الأجنبية. في غشت 1900 جاء الكاتب الفرنسي مرساي إلى طنجة ثم عاد في غشت 1907، فألف بعد ذلك بسنوات قليلة كتابا أسماه (textes arabe de tanger) أو "نصوص طنجة العربية"، ووضع في هذا الكتاب نصوصا حكائية على ألسنة بعض الأشخاص من طنجة يحكون فيها بلهجتهم المحلية كل المواضيع المتعلقة بالحياة اليومية لسكان طنجة وعاداتهم وتقاليدهم وطريقة عيشهم، بل حتى أغاني الصبيان التي يغنونها بين الأزقة والدروب. وعمل الكاتب على نقل هذه النصوص المنطوقة بلهجة أهل طنجة بدقة بالغة معتمدا على بعض طلبة طنجة الذين التقى بهم في الجزائر العاصمة بعدما كانو قد بُعثوا إلى هناك من طرف المفوضية الفرنسية لدراسة الطب. فنقل تلك النصوص بالحروف العربية ثم أعاد كتابة هذه النصوص بالحروف اللاتينية، وبعد ذلك ترجمها إلى اللغة الفرنسية. فنجد هذا الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام، في القسم الأول النصوص الحكائية الطنجية مكتوبة بالحروف العربية، ثم في القسم الثاني هذه النصوص مكتوبة بالحروف اللاتينية موجهة للأجانب لتعلم لهجة الطنجيين، ثم في الأخير نجد ترجمة تلك النصوص إلى اللغة الفرنسية. وربما كان الهدف الذي يتوخاه الكاتب من هذا العمل هو مساعدة المستعمرين في تعلم لغة سكان طنجة حتى يكونوا على اطلاع على لغتهم وعاداتهم وطريقة عيشهم خصوصا أن كل المؤشرات كانت تدل على أن المغرب يسير نحو السقوط في قبضة المستعمر الأجنبي آنذاك. والآن بعد مرور تلك السنوات فإن هذه النصوص التي نقلها مرساي أصبحت لها قيمة هامة لكل مهتم بتاريخ هذه المدينة وأهلها، فهي لهجة طنجة التي مرت عليها أزيد من قرن. كلمات عديدة انقرضت ولم يعد لها أي ستعمال لدى سكان طنجة في هذا الوقت، كما أن قيمة تلك النصوص تزداد خاصة إذا علمنا أنها جاءت على ذكر العديد من الأماكن والشخصيات والتقاليد والعادات التي لم تعد موجودة في حاضر طنجة أو لم تبقى كما كانت. ونظرا لطول تلك النصوص فإننا اقتصرنا هنا على نقل بعض من أغاني الصبيان التي كانوا ينشدونها في تلك الفترة وهم يتجولون بين دروب طنجة وأزقتها لما تحمل هذه الأغاني من دلالات وإيحاءات عميقة، وإن كانت عنصرية وهجائية في أغلب الأحيان. فمثلا عندما كان صبيان طنجة يلتقون شخصا صاحب بشرة سوداء يلتفون حوله ويشرعون في غناء هذه الأغنية: آ الْعَبْد الْجْربْوزْ بَاعْ يّمَاهْ وْشْرَى الدّبُوز آ الْعَبْد القّرّانْ بَاعْ يّمَاهْ وْشْرَى الْفرّان آ الْعَبْد الفْنْطِيز بَاعْ يّمَاهْ وْشْرَى العْنْطِيزْ وكانوا يذهبون إلى السوق "البراني" حيث كان الطرافة اليهود ينصبون خيامهم ثم يقفون على إحدى الخيام ويشرعون في غناء هذه الأغنية: يَعْقُوبْ مَا رْضَى بْالْغْلْبَة حْتَى تْقْلْشُوا عِينِيه خْلّى خْبٍيزْتُه فْ الطَاقّة وْمْشَى للاّخِرَة بْالْجُوعْ خْلّى الطّرْبُوشْ خْلّى الاِشْفَى خْلّى اوْلاَده فْ الْكْشْفَة فكان اليهودي عندما يسمع غناء الصبية يجمع لوازمه ومعداته ويرحل بعيدا عن هرج هؤلاء الصغار كما جاء في كتاب مرساي. وحتى الشخص الأصلع لم يكن يسلم من هجاء الأطفال الطريف فكانوا عندما يلمحون أحدا منهم يلتفون حوله ويطلقون ألسنتهم بالغناء على هذا النحو: آ الاْقْرَعْ الْفْرْطَاصْ بَاعْ يّمَاهْ وْشْرَى القْرْطَاسْ آ الاْقْرَعْ يَا وْلْد النّاسْ فِيكْ النقْرَة فِيكْ النْحَاسْ فِيكْ الْبْلْبُولَة حَايْلَة عْرّي رَاسْكْ نْلْقَايْلَة تْشُوفْ ذْسْيَادْكْ كِيفْ دَايْرَة وفي حالة إذا غضب هذا "الاقرع" يزيدون على غنائهم ذاك هذه القطعة لإغضابه بشكل أكبر: آ الاْقْرَعْ بَارُو بَارُو وْتْقِيبَة فْمْصْرَانُه الصْلاَة مَا يْصْلّيهَا وْالْقرْعَة عِينُه عْلِيهَا ولما يلمح هؤلاء الصبية استسلام "الأقرع" لعنادهم حينها ينهي أحدهم هجائهم ذاك على هذه الطريقة مقلدا أسلوب الحكماء من كبار السن: الله يرْحم الاُّولِين للّي قالوا: لاَ تْخَالْطْ الاْقرَعْ وْلاَ تْلبْسْ لْبَاسُه وكَان كَانْ الْخِيرْ فْ الاْقرَع وكَانْ رَا زْغبْ فْ رَاسُه وكان صبيان طنجة في هذه الفترة يتجهون إلى "لوطة" مغوغة التي كانت بعيدة عن المدينة للعب، وفي حالة إذا لمحوا طائر اللقلاق الذي كان يكثر في هذا المكان، كانوا يغنون عليه هذه الأغنية: آ بلاّرْج طَاقْ طَاقْ خْلّى اوْلاَدُه فْ الطْبَقْ مْشَى يْصْطَاد الْحجْلْ ضْرْبُه مْنْجلْ للْرْجلْ قَال لِهَا يَا عَايْشَة اخْتِي اعْطِنِي صْبِيَعْ ذْالْعْسلْ بَاشْ نْدَاوِي هَذا الرْجلْ خَيطْ احْمرْ خَيطْ اصْفرْ خَيطْ مَالِي بْالْجوهرْ وفي السقاية الجديدة كان الصبيان يذهبون إلى هناك لشراء الحلوى من الدكاكين المتواجدة في هذه المكان، وعندما كانوا يشترون الحلوى وتلتف حولهم أسراب النحل حينها تكون أغنيتهم على هذا الشكل: آ دْكْ دْكْ النّحلَة يْمّاكْ بَالتْ تْحتْها باَبَاكْ عرّى الطّاجِين بَاشْ يَاكُلْ ابّاِزين جْبرْ النّحلَة فْ الطّاجِين وفي فصل الشتاء عندما تنهمر الأمطار كان أولاد طنجة يخرجون إلى السيول الصغيرة التي تنطلق عابرة الدروب فيشرعون في القفز وسطها والغناء: اشْتَا تَا تَا تَا تَا آ وْلاَد الْحرّاثَة عيْطُو لِي عْلَى بَابَا يْشْري لِي الْجلاّبَة بَاشْ نْعيدْ هَذا الْعيدْ بْالشّويَة والْقدّيد أما إذا أرادوا الذهاب إلى مكان ما للتنزه فإن هذه هي أغنيتهم المفضلة التي يقطعون بها الطريق خلال مشيهم: أنَا مَاشِي لْوزّان ثْمّ الْبَارُود ثْمّ الرّصَاصْ ثْمّ حْمُّو عْسّاس ثْمّ الْبنَاتْ يْشُوفُوا آيَا رَاعِي الاْجْمَال رْدْ اجْمَالكْ يْبَاتُوا واذَا غْلبكْ الزّينْ طَامُو هِيَ مُلاَتُه طَامُو ذبحْها سكّين كِيفْ شْرَاهَا مُولاَهَا وعْمل لْهَا غمدْ جْدِيد والنّقْرَة بَاشْ كْسَاهَا يَا لاَلّة جَامعْ الشّرف يَا مُولاَةْ الْخرُّوبَة اللّي دْعَا فِيَا وفِيكْ يعْطِيه الله عقُوبَة والشّاشِيَة مثْقُوبَة والسّبْنِية مرْقُومَة كانت هذه فقط بعض الأغاني التي استقيناها من كتاب مرساي الذي نقل مجموعة منها في فصل عَنونه ب "الغناء ذ العيال". وإضافة إلى تلك النصوص النثرية التي كتبت بلهجة سكان طنجة في تلك الفترة كما سبق الذكر فإن هذا الكتاب يعد الآن بحق من الكتب المهمة التي ساهمت -ربما بدون قصد- في تأريخ حياة ساكنة هذه المدينة وأهلها في تلك الفترة التي سبقت بسنوات قليلة فرض الحماية.