بغض النظر عن مدى صدق نوايا الياس العماري حينما صرح علانية أمام ألاف المشاهدين أننا "كنا جبناء في تعاملنا مع الحركة الاحتجاجية بالحسيمة "،لأنه في نهاية المطاف لا يعلم ما في الصدور إلا الله ،وفي انتظار أن نرى أثرا وترجمة لتلك التصريحات في ممارسة ونهج سياسي جديد لحزب الأصالة والمعاصرة،فانه بدون جدال فقد توفق الياس العماري في وضع أصبعه على أحد أعطاب السياسة بالمغرب ،ألا وهو تآكل مصداقية المؤسسة الحزبية المغربية وفقدان رهيب لمنسوب ثقة المواطنين بها ،مما يجعل الحركات المطلبية والاحتجاجية لمختلف القطاعات والفئات يغلب عليها الطابع العفوي ،ويسهل لبعض "الحالمين الجدد" مأمورية الزج بها في الطريق المسدود بحثا عن الانفجار الموعود. ما يهمني التطرق إليه في هذا العمود بالدرجة الأولى ،هو تأكل مصداقية الأحزاب الوطنية والديمقراطية التاريخية ،أما ما كان يصطلح عليه ب"الأحزاب الإدارية" ،فهي لم تؤمن يوما بالنضال الجماهيري عبر النقابات والجمعيات والنزول إلى الشارع وتقديم ضريبة النضال لما يقتضي الوضع ذلك ،بل اعتمدت منذ تأسيسها على دعم بعض أجهزة الدولة خلال الانتخابات وكسب وشراء أصوات المواطنين ،بالإضافة إلى شبكة الأعيان المحليين،وإغلاق أبواب مقراتها في انتظار الموسم الانتخابي المقبل. إن أزمة القوى الديمقراطية وتقهقرها المستمر خلال العقود الأخيرة لا يمكن تفسيره ،فقط ، بالعامل الخارجي ،أي بقمع أو تدخلات النظام ،أو كما عبر عنه مؤخرا يونس مجاهد عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي " دمرتم الأحزاب وأسأتم إلى صورتها ،واليوم تطلبون وساطتها". نعلم جميعا ،وذاكرة التاريخ لا تمحى ،أن القوى اليسارية بالمغرب وخصوصا الاتحاد الاشتراكي (والقوات الشعبية سابقا) حصل على نتائج قوية وهائلة خلال الانتخابات الجماعية في 1960 ،كما حصل الحزب على ثقة المواطن المغربي في انتخابات 1983،رغم تعرضه لضربات قمعية شملت حتى أعضاء من مكتبه السياسي،مما مكنه من تسيير عشرات المجالس الجماعية بمدن مهمة بالمغرب. صحيح أن القمع والحرب النفسية والبروباغاندا والإغراءات لها تأثير في توجيه وصنع خريطة جديدة للرأي العام ،لكن يظل عاملا ثانويا .ففضائح بعض من أشرفوا على تسيير بلديات بعض المدن كتطوان والاغتناء اللامشروع من وراء ذلك جعلت المواطن يعاقب انتخابيا الاتحاد الاشتراكي. في المحطات الانتخابية اللاحقة ،كما أن انتصار خط "الفكرالوحيد" في المؤتمرين الأخيرين للحزب جعل من أعداد كبيرة من أطر ومناضلي الحزب يهمشون من مراكز القرار و جعلهم يفضلون الابتعاد أو التفرج بحسرة على مآل الحزب، فضلا عن عدة مظاهر سلبية أخرى كالقطيعة مع العمل المدني والجبهة الثقافية...الخ إن الأحداث التي عاشتها الحسيمة ،والتي قد تنتقل شرارتها إلى مناطق أخرى من المغرب ،تستدعي من الفاعلين السياسيين الذين لهم غيرة حقيقية على مؤسسات البلاد ،ويعتبرون أن ما تحقق من مكاسب في مجال الاستقرار السياسي،وحرية التعبير والحريات العامة عموما (رغم كل النواقص الممكنة)،هو نتيجة تراكمات وتضحيات أجيال سابقة ،يتطلب منهم ممارسة النقد الذاتي ليس بغية جلد الذات ،بل الوقوف على مكامن الخلل في الفكر والممارسة ،أما خطاب التبرير وشيطنة الآخر ،فمن شأنه وأد ما تبقى من الأمل في صحوة جديدة لقوى التقدم في هاته الأرض الطيبة.