في مشهد عام تزدحم فيه الساحات بالهتافات وتتهافت فيه الخطابات،يطرح الباحث أحمد بوزيد سؤالا جوهريا ومقلقا: ماذا يبقى من العمل النقابي عندما ينفصل عن وعاء قيمي ورؤية نقدية؟ من خلال تدوينة لافتة صفحته بالفيسبوك، يحفر بوزيد تحت سطح المظاهر الصاخبة ليصل إلى تشخيص دقيق لتحول قد يصيب الجسد النقابي، فيتحول من فضاء للنضال الجماعي المنظم إلى ما يشبه "حضرة" أو "جذبة" صوفية، تذوب فيها الذات في الدائرة، ويتحول الفعل إلى استعراض، والخطاب إلى هتاف مجازي يغيب فيه المعنى لصالح الانفعال. يستعير بوزيد،بجرأة تحليلية ولغة شعرية كثيفة، مصطلحات من عالم الطقوس الصوفية (الحضرة، الجذبة، التحيار، الممسوس) لوصف الحالة التي ينزلق إليها العمل النقابي عند فقدان مرتكزاته الفكرية. فهو يرى أن الساحة أو التجمع النقابي، في غياب المشروع، يمكن أن يتحول إلى "مهاد" لاستثارة جماعية. ينهض فيها "الساكن" و"المترسب" في أعماق الأفراد، ليس بدافع الوعي الطبقي أو الحقوقي، بل بدافع الاندماج العاطفي في الدائرة. هنا،يصبح الهتاف كالإنشاد، والحركة كالرقص في حالة وجد، والخطاب السياسي يتحول إلى "طقوسيات قربان" ووعود بالتضحية (الشهادة) تنبع من حرارة اللحظة البلاغية أكثر مما تنبع من قناعة استراتيجية. يصف بوزيد هذه الحالة بأنها "افتتان بسلطة الدائرة"، حيث يذوب الفرد في الجمع، وتُستثار عواطف مكبوتة وتاريخ من الألم والغضب، لكن دون قناة عقلانية لتحويل هذه الطاقة إلى فعل تغييري مستدام. يرسم بوزيد قوسا تاريخيا ومجازيا مثيرا، فهو يقارن هذا "التحيار" النقابي الحديث بجذبات "المجاذيب" والطقوس الشعبية عند أضرحة الأولياء، حيث كان الفرد يتحرر مؤقتا من قيود اليومي وانحطاطه عبر هذه التجربة الوجدانية. لكن الخطر، حسب تحليله، يكمن عندما تنتقل هذه الآلية من حيزها الطقسي المحدود (الضريح، الليل، الفضاء المقدس) إلى فضاء آخر مغاير تماما في طبيعته وأهدافه، وهو فضاء النضال الاجتماعي والاقتصادي ("أسواق المزايدات وتدلالت"). ويستخدم استعارة الورد القوية: فالعمل النقابي الحقيقي كالورد الغض في منبته النقي، تنبع فعاليته وجماليته من جذوره في القيم والمصلحة الجماعية. أما إذا نُزع من هذا "المنبت الندي" – أي من تربته الفكرية والقيمية – فإنه يذبل وتذروه رياح المصلحة الفردية والانتهازية والعاطفية العابرة، "ولو كان ورد العاشقين ووصال التحاب". الخلاصة المأساوية التي يصل إليها التحليل هي الانزياح والانفصام.ف"الطرس" – أي ذلك الألم العميق والرغبة اللاهبة والتاريخ المشترك – عندما يتسرب إلى "جسد بلا ذاكرة وبلا معين قيمي"، فإنه ينتج حركة بلا معنى. يصبح اللسان، بلا سند من قيمة راسخة أو فكر واضح، "ملتويا" وقابلا للانقلاب. ما يقال في حرارة "الحضرة" (كلام الليل) من شعارات قاطعة ووعود مطلقة، ينسخ وينقض ببرودة وضوح النهار وواقع الممارسة اليومية ("يمحوه النهار"). وهنا يتحول الوفاء للقضية إلى مجرد لحظة عابرة من الوجد الجمعي، تتبدد سريعا لتعود الحقوق مغيبة، والشعارات مجرد أصداء. ما يقدمه أحمد بوزيد في هذه التدوينة ليس هجاء للعمل النقابي، بل هو صيحة تحذير ونقد بنائي حاد. إنه يدعو، ضمنيا، إلى إنقاذ النقابية من براثن الفعل الانفعالي والطقوسي الاستعراضي، وإعادة تأسيسها على ركيزتين، الوعاء القيمي الواضح،و منظومة أخلاقية ومبادئ راسخة تحكم الفعل وتضبطه، وتمنع الانزياح والانقلاب. والفكر النقدي، و تحليل مستمر للواقع وتشخيص علمي للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، لتحويل الطاقة العاطفية والجماعية إلى برنامج عمل واستراتيجية نضالية واضحة المعالم. فالنقابية،في قراءة بوزيد، إما أن تكون مشروعا تحرريا قائما على الوعي، أو ستتحول إلى مجرد "حضرة" عصرية، تستهلك طاقات الناس وتعيد إنتاج إحباطهم تحت مسميات جديدة، بينما تبقى الأنساق العميقة المهيمنة بمنأى عن النقد والتغيير. السؤال الذي يتركنا إياه، هل يستطيع الجسد النقابي أن يستعيد ذاكرته ومعينه القيمي، أم أن "رقصة التحيار" ستستمر حتى آخر الشوط؟