دائما في إطار التأمل في متعلقات التواصل، وإلحاقا بالمقال السابق الذي كان قد تعرض لبعض النقائص التي تطال أساليبه، نتحدث هنا -في المقابل، وباقتضاب- عن عيوب في تحديد العيوب، أو ما يمكن أن نسميه "نفي النفي".. أي تلك المغالطات التي تصنِّف بعض الممارسات التواصلية عيوبا وهي ليست كذلك.. جل هذه الادعاءات تصدّر على شكل لازمات ثابتة الشكل والسياق.. حيث يعاب على المحاور، مثلا، "الإيمان" بصحة موقفه، وكذا التشبث برأيه، وأيضا إطلاق حكم أو تقييم على تصرف أو موقف أو شيء معين، كما يتهم بعدم قبول الآخر.. بخصوص مسألة ادعاء صحة الموقف والتشبث بالرأي، فإنه لا يستقيم اتخاذ موقف واعتقاد الصواب في الموقف النقيض أو المقابل.. كما أنه لا يُتصور التخلي عن الموقف المقتنَع صدقا بصوابه طواعية ومبادرة ومجاملة، دون داع أو دافع، ما دام قائما لم ينقض، والحجة والسبيل قائمة على الطرف الآخر،، فإذا لم يقدم ما يلزم بالنقض أو البناء، فلا يلومن من استمسك بما بناه.. لا يجدر أن يغير المرء رأيه ذاتيا إكراما لمحاوره، ما دام يرى ما يراه صائبا،، لم ينقض.. لأن القناعة لا تُنقض آليا من تلقاء نفسها، كما أنه لا مجاملة في الرأي،، بل قد تكون ضعفا وتلبيسا وخيانة.. من يرى رأيا يجب أن يكون مقتنعا به، ويظل متشبثا بذلك حتى تثبت التجارب أو المناكفات خطأه، وإلا يكون منفصما غير منسجم الظاهر والباطن.. فإذا ما غيّر القناعة، غيّر التصريح.. أما المآخذة على الحكم والتقييم -بالإطلاق الذي تستعمل به- فهي خطأ شائع يلجأ إليها المحاور حال تعذر تبرير الموقف أو التقييم الأصلي(موضوع التقييم المنتقَد)، لأنه لو توافر التبرير لقُدم هو بدل مصادرة الحق في التقييم والحجر على إصدار حكم.. ولا يجوز للمُناظر أن يعترض على أحكام نظيره، بل له أن يبين صواب حكمه، وفساد حكم نده.. وهذا بتقديم سند رأيه، وتفنيد مدعيات خصمه.. من جهة أخرى، فإن المآخذة تعارض أبجديات المنطقين النظري والواقعي.. ذلك أن تفعيلها يقتضي حذف مصطلحات التقييم والحكم من المعاجم.. والحال أن كل القواميس، وفي جميع اللغات تعج بمصطلحات التقييم والمقارنة والمفاضلة.. بل إنها الأكثر استعمالا بحيث لا يكاد ينجو كائن من الاقتران بأحد المتضادين القيميين: جيد/رديء، صحيح/خطأ، مباح/ممنوع... وجل أعمال البشر تتمحور حول هذه الثنائيات باختلاف المرجعيات الذوقية أو العرفية أو القانونية أو العقدية... نعم، إطلاق الحكم منوط بالتبرير حسب المرجعية التي ينتمي إليها الحكم، ما لم يتعلق الأمر بالذوق،، بل وعلى الذوق أحكام.. في ما يتعلق ب"عدم قبول الآخر"، فإن قبول الآخر لم، لا، ولن يعني يوما تبني رأيه، وتصحيحه والشهادة على ذلك.. ومعارضة الرأي أو رفضه لا تعني رفض صاحبه.. بل عمليا لا يوجد حل ولا حال آخر إلا قبول الآخر غير المتوافق معه، وإلا لم يبق على وجه الأرض بشر، ما دامت الآراء لا تتفق، وما اتفق منها لا يستمر توافقه إلا ردح من الزمن..