بسم الله الرّحمن الرّحيم قال راجِي عَفْوَ ربِّه، واسْتِحْسانَ الناسِ ما خَطَّه في كُتْبِه؛ عدنان بن صالحٍ الغماري التطواني مولِداً، الصَّويري مَنْزِلاً؛ عمّا سَمِعه وقَرأ عنه وشَاهَده ببلاد المغرب الأقصى بعد تِسْعٍ وسِتِّينَ سنة من حلول الوباء المُسَمّى "الفيروس التّاجي التاسع عشر": ".. إنِّي مُقْتَصِرٌ على ما عَلِمْتُه مِن هذا القُطْر المغربي زَمن الوباء، ثم كانت الرِّحلة إليه مَتَمَّ صائفةِ سَنةِ 2089 ميلادية، الموافِق ل 1510 هجرية، طَوَيْتُ فيها أرضَ المغرب وصِرْتُ إلى حِمى سَبْتَة وقدْ فَرَغَتْ مِنّي الرّواحِل وأكَلَتْها المراحِل، و(سبتةُ) لهذا العهْدِ لَمّا تَزَل في أيدي النَّصارى، داخِلةً تحت حُكم ملِكِ قشتالة وأراغون والجزيرة الإيبِيرية المدعو "فيليب بن كارلوس الخامس" وريث عَرشِ آلِ بوروبون، وإلى الله تصير الأمور. والمغرب تحت حُكْمِ الملك (محمدٍ بن الحسن) وارِثِ ذَوائب مُلك العلويين الراسي القواعِد، و(رباط الفتح) عاصِمةُ حُكمِهم وكُرسِّي سُلطانهم. ذاقَت البلاد مِن أهوالِ وباءٍ عظيمٍ يُقال له "فيروس كورونا" الذي عمَّ وطَمَّ، ونَزَل بالعباد في معظم البلادِ وحُصونها، والجبال وحُزُونها، والأودية وبُطونها، والبِحار وعُيونها، وفَتَكَ بملوك الدّول وقادَتها، وأَفْرَغ خزائن الأرض وأموالها، وأذْهَبَ حِلْم الهادِئين، وأفْقَد خيرة الصّابِرين صَبْرَهم. ولا حَاجة للإطالة في ما ظَهَر حتّى بَهَر؛ وإني لمُسْتَكْفٍ بالحديث عن حالِ الناسِ وواقع البلاد بَعْدَ يومِ العاشِر من شهر يونيو 2020؛ ذاك اليوم الذي تَطلَّعت فيه الرعية لاستِعادةِ الحياة الهَنِية، وطَيِّ شهور الحَجْرِ الشَّقِية، واشرأبَّت فيه الأعناق إلى الآلاتِ الناقِلة للأخبار..، لَيْلَتَهم تلك، رَفَعَتِ الحكومة عن صِدْقِ التَّمديد مِن عَدَمِه حِجاباً، وفَصَّلِت المرسوم وزواجِره باباً باباً، وأبْدَتْ للنّاسِ "لِمَ" و"كَيْفَ" عِلَلاً وأسباباً، سَالِكةً فيه سبيلَ الاختصارَ والتّلخيص، مُقَدِّمةً السهل على العَويص..، والمُرادُ؛ حَمْلُ الجمهور على لُزُوم المنازِل، والوقاية بما فيه حِفظ النوع البشري المغربي وبقاءه. ولكن عَسُرَ على الخليقة أنْ تَسْتَوعِبَ وَطْأ الصَّدمَة استيعاباً، وكثُرت الأمزِجة النّافِرة، وتَعَقَّدَت حواجِبُ العيون الناظرة إلى الخبَر بِعَيْنِ الانتقادِ لا بعين الارْتِضاء، اللَّهم ما خَلا قليلَ ارْتِياحٍ سَرى على خاطِر ومُحيّا أهل المنطقة الأولى. لَما فَشا الخَبر وطار في الآفاق؛ امْتَنَع قومٌ من المغاربة عن القول والتقييد، واستَفْرَغوا الوُسعَ لمطالَعة فهارس خزاناتهم والعناية بالشّأو البَعيد، فيما دَوَّن آخرونَ عن النّازلة وحالِهِمْ معَ التطويل في نفاد قوانينِ دَوْلَتِهِمْ وَأَكْثَروا، وجَمَعوا أحمالاً مِن الأخبار عن جيرانهم العرب والعَجَم وسَطَّرُواْ، وقامت نَوَادِبُهُم، وتبايَنَت أقاويلُهم، وكان لوقْعِ بَيانِ وزيرِ دَولتهم الذي أُنيط بهِ رَتْقُ ما فَتقه الوباء في معيش الناس وعمران الدولة وموارِدِها، وكان ذا دُربة بتَمشِية الأمور؛ مَا أثارِ في جُلِّ النّواحِي رَنّةَ نُوَاح، وبَلغ التأثير في قلوبِ جَمِيعِ مَن قَرأ الخبر حتى أنَّهم كانوا يَتلونه في كلِّ ناحيةٍ وبِيدٍ، ويَتَنَاقَلُونَه مِن يَدٍ ليد، وهُم بينَ مشْدوخٌ ومَدهوشٍ ومُصدِّق ومُكذِّب، وصار حالُ بعْضِهم مِمَّن حُرِم الزّوجةَ والأقاربِ ومَن عَلِقَ منهم وراء البِحار أشْبَه بالثَّكْلى التي لا يُذْهِبُ ما بِها إلا ذَرْفُ دَمْعِها ولَطْمُ خَدِّها وتَلَمُّسِ آثار مَفَقُودِها.. ولله الأمر من قبل ومن بَعد. وَلَشَدَّ ما أثارَ تقسيمُ البلادِ بينَ مناطِق أولى ومناطق ثانية؛ عَتَبَ بعْضٍ وتَهَكُّمَ آخَرين. بَيْدَ أنَّ أُولِي الأمر في البلادِ أقَرَّوا هذا التقسيم بين الولايات عَسى ذلكَ يُجدّد عزائم العباد ويَعْقِدَ صَرائِمَهم بَعد الانتكاث، كي يَلْحَقَ ساكِنو المناطق الثانية بإخوانهم الذين سَبَقوهم إلى فَتْحِ بَقَّالاتهم ومَخابِزِهم وأماكن حِلاقة الرؤوس ومَدّ مُحِبَّي القهوة السوداء في الكؤوس في حواضر وقُرى المنطقة الثانية. وإليكم بيان ما كان _ وصار _ عليه الحال بالمغرب الأقصى زَمَنَئِذٍ: أمّا (مراكش) فكأنّها أَعْجَبَهَا ما رَأَتْ مِن حالِ شِفاء الناس بها وسُرُورِهِم بتناقُل أخبارٍ تَسُرُّ القريب والبعيد؛ إلَّا أنَّهم لَم يَبْرَحوا مَكانهم وحالَهم يَومَ نُودِيَ في الناس أنَّ الحواضِر والولايات لا رَيبَ خاضِعة لتَصنيفٍ، وأنَّ مراكش مِن المغضوب عليهم..، ذلكَ أنَّ بَغِيَّا آوَت زانياً، فَنَالَ منها وَطَره، وآبَ إلى أُسْرته وبَنِي حَيِّه مُخالِطاً ومصَافِحًا، فَفَشَا فيهم الوباء كَرّة أخرى، فانْحَبَس النّاس في حاضرة مراكش إلى مَتمِّ الصَّائفة، والصيفِ بِها حارٌّ تَشوي شَمس نهاره الجلود وتُفتّت الصّخر، ويُلْهِب حَرُّ لَيلِهِ الفُرُشَ والبُسُط وما يَنام عليه العامة والخاصّة. وأمّا (فاس)؛ أثيرة مُدُن المغرب الأقصى وسُرَّته، فقد كانت الفادِحة التي رُزِأت بها إثْرَ الجائحة وإطالِةِ مُدَدِ الحجْرِ على عَوامِّها وخَواصِّها؛ مما لَمْ تُرْزَأ الحواضِر القريبة منها بِمِثْلِها، فَتَدَثَّر قاطنوها بِغَمَامَات حُزْنٍ، وقامَت نوادِبُهم وسالَت مَدامِعُهم، وزادَ في حَنَقِهم؛ تَرَقِّي جارَتِهم (مكناسة الزّيتون) إلى مراقِيَ في الشِّفاء والتّعافي جَعَلتها حُرَّة طَليقةً؛ بشراً وشجراً. وهذه قاهِرَتُهم العظيمة (الدارالبيضاء)؛ أكبر آيةٍ على أنَّ كَثرةَ العمران والسّكان مُوجِبٌ لتوطُّن الوباء، تُسابِقُ أطرافُها وسَطَها في انتشار الوباء انتشاراً عجيباً، سادِرةٌ في غَلوائها، لم تَرْدَعْهَا زَواجِر السّلطان ولا رَوادِع ما يُدعى "المخزن" والعَسَسُ العساكِر في المداخل والمخارِج، حتى ليُخيَّل إلى الرَّائي والسّامع أنّها تَسْتَوفِز لتَمُدَّ طائل البَاع في مِضمار نَقْلِ الوباء إلى الناس والمتاع، فجَعلَها المخزن والوالي نُصْبَ نواظِرِهم حينَ الإفصاح عن مصيرها بَعْدَ أَوَانِ الحَجْر الثاني، بأنْ صارت في عِداد الحواضِر مِن الأواخِر الخارِجة عن قُيود الحَجْرِ في إقراره الثالث. ولَعَمْري؛ لقد كان هذا الحالُ مَدْعَاةً لسَيْلِ المَحابِر بالتّنكيت والتّهويل والتّفجُّع، وتَدَفُّقِ المنابِر _ التي كانت في هذا العَهْدِ لا تُشبِه منابِر الزمان الغابِر في شَيء _ بالتَّعاليق والحواشي والشُّروح والنِّكاتِ مما دَقَّ عليَّ حَصْره، ولا وَسِع المجالُ ذِكْره، فيما أنا مُباشِرٌ بِتَأْرِيخِه. في الطريق إلى شمال البلاد؛ تَقع بلدة (أصيلة)، وهي على صِغَرِها وسَماحة أهلها وخَوفِهم؛ ألْفَت نَفسَها مُقمَحةً في حالٍ لَمْ يَسُرَّها، ذلكَ أنّها عُدَّت مِن تَوابِعِ حاضرة (طَنجة) الكُبرى، فجَرى عليها ما جَرى، فبقِيَت أصيلة تندِبُ شُجونها. وَرَدَّ على عَويلِ وشَكاةِ سُكانِ أصيلةَ سُكانُ طنجة قائلين: إننا وحَقِّكم لِما أصابَكم بِسَببنا وأحوال كورونا لمحزونون، ونأسفَ إليكم مِن الضَّيقِ في الزمان والمكان الذي إليه صِرْتُم. وأمّا (تطوان) وهي المتاخِمة لحاضرة طَنجة من جنوبِها الشَّرقي، فهي ومُنذ حَلَّ بها الوباء العظيم وقاطنوها بين ظالِمٍ لنفسهِ، ومُقْتَصد في مَشْيِه وتَنقُّله، وخائفٍ مُنْزوٍ في بَيته، وسابِقٍ بالتّعرُّضِ للمرض؛ ثم صارَ لسان حالِ أهْلِها وقَدْ رَأوا العِقاب ارْتَفع عنهم "الحمد لله الذي أذْهَب عنّا الحَزَن، وخفَّف الحَجْرَ، وأَحَلَّنا الشّوارَع والغاباتِ والأسواق نمشي فيها لا خَوفٌ منا ولا علينا ولا يَمَسُّنا من كورونا بعد الآن نَصِيب". وهِي إلى أنْ يعودَ أمْرُها كَما بَدَا، وتَرْجِعَ أيامُ صَفْوِها جُدُداَ؛ لماضية بحِفظ الله وتوفيقه. هذا؛ والنّاظِر في حالِ بلاد المغرب زَمَنئِذٍ؛ وحالِ المغاربة، يَستَيْقِن تأثير هذا التَّطويلِ الحَجْرِي على الفقراء والمَحاويج الذين ازدادت مَفاقِرُهُم جَرَّاء حلول الوباء بأرزاقهم، إلّا أنّهم يقدِرون على أنْ يَعْمَلوا في الأيام المُستَأنَفةً ما يَقيهم الفقرَ والضُّرُّ وتبعاتِ الزَّمن المُرُّ. ولم يَقْتَصِر كُلُّ ذي حِسابٍ في عَجَبٍ عُجابٍ يُقال له بِلُغَة أهل ذاك العَصر (فيسبوك) عن التنابُز بالنِّكاتِ والتَّمَسْخُر من ساكِنة المنطقتينِ معاً، وكان البَيْضاوِيون أوْجَعُ هَجْواً. وتَعَقَّبَ مُمتَهنِو (فيسبوك) هذا؛ شَأنَ البَلدِ وحالَه مع حَجْرِه الثالث، بل عَنَّ لكثير من أهل المغربِ الإلمام بأخبارِ ما وراء البحار وما جاوَر القُطْرَ المغربي؛ كالجزائر وتونسَ وبلاد شنقيط ودول السّاحِل وشَرْقاً إلى مِصر أمّ الدنيا. وما كان ما حَدثَ بالذي يُغيِّر نيّةَ الخلائق ولا ليُرْخِي مِن مَشدودِ طِيَّتِهم، فقد اشتدَّ عَزْمهم، وتنافَسَ شبابهم وكهولهم على اللِّحاق بالولايات النّاجِية، والتشَوُّفِ إلى الخروج من ضَيْقِ ما صاروا إليه، لا سيما والصَّيف _ وقْتَئذٍ _ كانَ قَد أقْبَلَ يَسْحَبُ ذَيْلَهُ، واقتَربَ الحَرُّ بخَيْلِه ورَجْله، والناس للبحر في حالةِ اشتِهاء.. وعلى الله قَصْدُ السبيل شوال 1510ه، الموافِق ل 21 يونيو 2089 ك: "نضائدِ الدِّيباجِ في ذِكْرِ ما كانَ مِن حالِ المغاربة مع الفيروس التَّاجِي" عدنان بن صالح التّطواني