شكلت حالة حضور النموذج السياسي الاسباني طيلة الخمسة قرون الماضية نشازا سياسيا صارخا في المنحى العام لتطور الأنظمة السياسية الأوروبية، فالوحدة السياسية الاسبانية بقيت معلقة في سياق وحدة شكلية مثلتها الملكية، وقد أفردت صحيفة نيويورك تريبيون في 9 سبتمبر 1854 للحالة الاسبانية ولجذورها التاريخية سلسلة مقالات تظهر الوعي المبكر لدى النخبة الأوروبية بنشاز النموذج السياسي الاسباني فرغم الاتفاق الأكاديمي والسياسي على أن الشكل السياسي للدولة البرجوازية المعاصرة ، هي الدولة الموروثة عن العصر الوسيط عبر أنظمة الملكية المطلقة، فقد صاغت المجلة في تناولها لهذا الموضوع سؤالا ينم عن حيرة معاصريها في الإلمام بهذا الشكل الهجين الذي نبت على أرض اسبانيا، و الذي سيطبع كل تاريخها الحديث واستمر مقعدا في دولتها الحديثة. وذلك بالسؤال عن سبب عدم وجود مركزية سياسية في بلد شهد قبل غيره من البلدان الإقطاعية الملكية المطلقة، وذلك في أكثر أشكالها حدة ؟ وتجيب مقارنة بين المجتمع الاسباني و المجتمعات الأوروبية الأخرى، كون هذه الأخيرة نهضت الملكية فيها على أنقاض الطبقات الإقطاعية المتصارعة: الارستقراطية و المدن، وقد كانت الملكية المطلقة مركزا من مراكز الحضارة وحاملة للوحدة الاجتماعية، وكانت المختبر الذي تمازجت داخله وتداخلت فيه مختلف العناصر المجتمعية، الأمر الذي حمل المدن على القبول بمقايضة استقلالها المحلي الموروث عن القرون الوسطى بتقدم البرجوازية على سائر الطبقات وبسيطرتها على المجتمع البرجوازي الأهلي . أما في اسبانيا فان الارستقراطية على النقيض من ذلك لم تفقد امتيازاتها، وكذلك المدن استطاعت الحفاظ على حيز كبير من استقلالها فيما فقدت قوتها ودورها الحديث. إن لجوء ماركس للتاريخ السياسي لحل إشكالية نشاز المسار الاسباني عن باقي الدول الأوروبية يتمثل في كون التساؤل في التجربة الاسبانية هو تساؤل لحل إشكالية نموذج مفارق لحالة قصوى حادة في القصور عن التوحيد القومي، وذلك في سياق لا يداخله تعدد قومي كما هو الحال في النموذج النمساوي- المجري ..و يبقى السؤال لم حدث ذلك؟ ، يساءل في العمق المفارقات التي تنسجها الخيوط التاريخية القائمة بين مساري الدولة والمجتمع. هذا المسار الذي تمثله سيرفانطيس في رواية دونكيخوطي دي لامانشا ذاك الرجل الذي يحاكي أمجادا تاريخية حقيقية، حولتها ضغوط الواقع المتحول إلى أوهام مفارقة للتطورات التاريخية الحاصلة، وصارت بذلك عبئا ساهم في تفاقم الوعي بين الآن و المآل في تجربتها التاريخية اللاحقة، نجد في تحليلات المدرسة التاريخية للظاهرة الدولتية الاسبانية ما يحيل لذلك، فمما لاشك فيه أن التراجع الاقتصادي الذي أصاب اسبانيا منذ القرن السادس عشر اضعف حركة التبادل في الداخل، وشل الصلات بين مختلف المقاطعات وجعل الصلات بينها تتردى . فانكفأت المقاطعات المختلفة على حياتها الداخلية وعلى استقلالها و تباينها إلا أن هذا التفتت لم يحدث إلا لان مادته كانت قائمة . مادته هذه تحدرت من التاريخ الاسباني . ويجب الإشارة هنا إلا أن تشكل الوعي الاسباني الشقي. أي: إتباع سياسة إمبراطورية في وقت لم تعد إمكانياتها في مسرح الأحداث اللاحقة ممكنة وقائمة، هو ما يفسر كذلك الحاجة الملحة للمغرب لتلبية هذا الإحساس. فما نسميه نحن مثلا في أدبياتنا التاريخية المغربية بحرب تطوان، تسميه اسبانيا في أدبياتها التاريخية ومناهجها التعليمية بحرب إفريقيا تمثلا للقاموس الجغرافي لمرحلة الكشوفات الجغرافية الكبرى التي مثلت أزهى أيام الإمبراطورية الاسبانية. وقد تشكل هذا الوعي لدى الإسبان بسبب الخروج من مسرح التاريخ الأوروبي والذي كان سريعا وغير مبررا ولكنه كان ساحقا . تساوق هذا الخروج من ساحة التنافس الأوروبي على المستعمرات و الطرق التجارية مع تحولات تاريخية داخلية أبّدت انغلاق وتخلف اسبانيا. فمن المعروف أن الملكية الاسبانية تشكلت من اجتماع مناطق أراغون وقشتالة وغرناطة ، وتمتعت المؤسسات البلدية والمدينية، التي تمثلت في مجلس الكورتيس باستقلال لم تعرفه البرلمانات البريطانية أو الجمعيات العامة الفرنسية. ذلك أن أجزاء شبه الجزيرة الصغيرة استعيدت وحولت إلى ممالك مستقلة في حقبة كانت أوار المعارك الطويلة ضد العرب مستعرة . وتكونت في أثناء هذه المعارك عادات شعبية وقوانين جديدة، كما قوت موجات الاستيلاء المتعاقبة التي اضطلع بها النبلاء من قوتهم إلا أنها أضعفت في الآن نفسه سلطة الملكية من جهة ثانية، وكسبت المدن و البلدات داخل البلد أهمية متعاظمة إذ اضطر الناس إلى التجمع في أماكن محصنة وذلك لرد غائلة حملات العرب التي لم تكن تنقطع. كان لوتيرة استرداد اسبانيا من العرب دور حاسم في نشوء كيانات منفصلة منكفئة على نفسها . ويعود ذلك إلى العزلة النسبية التي كان يعاني منها كل كيان محرر في الدفاع عن حريته، و إلى اضطراره لان ينظم نفسه بنفسه دون انتظار مساعدة حاسمة من الكيانات الأخرى . ولما كان استرداد اسبانيا قد تم على مراحل امتدت طوال ثمانية قرون .أتيح لكل كيان من الكيانات الأخرى أن يحصن وحدته و يقيم ركائزها على أساس متين فورثت مدن الحقبة الأخيرة من القرون الوسطى وبداية عصر النهضة استقلال هذه المراكز وتحول الصراع بين الملكية و بين القوى المدينية إلى حرب أهلية كالحرب التي اندلعت عام 1520-1522 وسحقت فيها القوى البرجوازية. بذور هذه الحرب بقيت كامنة ومتحكمة في التوازنات السياسية و كان لها اثر عميق في طبع اسبانيا بطابع التفكك السياسي والاجتماعي الذي غلب عليها. وبقيت اسبانيا مثلها مثل تركيا ركاما من المقاطعات السيئة الإدارة وعلى رأسها ملك اسمي .واتخذ الاستبداد في المقاطعات أشكالا متباينة فرغم أن الاستبداد لم يحل بين المقاطعات وبين أن تسن شرائعها وتعمل بموجب أعرافها وترفع أعلامها المختلفة وتجبي ضرائبها تبعا لأنظمة تتعدد تبعا لتعدد المقاطعات . فما دامت المقاطعات لا تثقل كاهل الحكم فان الحكم لم ير حيفا في استقلالها. واستمر الأمر إلى حدود فجر التاريخ المعاصر حيث كسر انتصار فرانكو في الحرب الأهلية التي انفجرت عام 1936 هذه القاعدة و ادخل اسبانيا في رزمة وحدة سياسية قسرية. إلا أن المتتبع لتطور الحياة السياسية باسبانيا بعد المحاولات المضنية لتصفية ارث فرانكو بعد موته سيلاحظ عودة الخصوصيات المحلية ، شبه القومية أو المفرطة في قوميتها ، إلى النشاط و البروز وكذا الاحتجاج. بل إن وجها هاما من المشروع السياسي الاسباني الحالي يقوم على الاعتراف بالبنى السياسية المحلية التي ينحو بعضها منحى انفصاليا ويتوسل العنف ضد الإدارة المركزية أداة تحتل مكانة الصدارة بين الأدوات السياسية الأخرى ، الأمر الذي يطرح على بساط البحث مسالة الوحدة السياسية الاسبانية ويهدد بين الفينة والأخرى بتدخل الجيش الاسباني في الحياة السياسية . وتقف الأحزاب السياسية المركزية إزاء ظاهرة التنازع المحلي موقف المتردد التي لا يملك حيلة واسعة وفي خضم هذا النزوع المتكرر نحو الانفصال يبرز المغرب وهم عظمة اسبانيا وخطرها القادم، تلك الواجهة المفضلة لحسم الخلافات الداخلية الاسبانية. فمن المعروف ان كطالونيا قبل أن تكسب اسبانيا كاس العالم بقليل كانت تستعد لأكبر مسيرة شعبية تطالب بالانفصال النهائي. ومن المعروف ان التيارات المحلية ذات النزعة التفلتية تخترق الأحزاب الاسبانية نفسها، فنجد أن الحزب الشيوعي الاسباني مثلا يتألف من فرع كتالوني مستقل نسبيا عن الحزب الوطني، ويضطر الحزب الاشتراكي إلى التحالف مع الفريق الكاستيلي في أحيان عدة . فلا يبدو أن اسبانيا خرجت من قوقعة الترنح القومي. ولا عجب أن ينهال خطاب الحزب الشعبي في التماسه لتمتين الوحدة السياسية الاسبانية من استدعاء التاريخ الامبراطوري الغابر وينتفض الرجل ذو الحصان الأبيض دون كيشوط ليحارب طواحينه الهوائية، ويبقى المغرب دائما الوجهة المفضلة . إن طريقة ولوج اسبانيا للمرحلة الديمقراطية وطريقة بناءها لمشروعها الديمقراطي، تركت فراغات عدة في المشروع الديمقراطي الاسباني الحديث. وذلك لأن اسبانيا ببساطة لم تعرف مرحلة الانتقال الديمقراطي، بل عرفت دخولا إلى التجربة الديمقراطية مباشرة ودون المرور بمرحلة العدالة الانتقالية الضرورية لتصفية الأجواء السياسية داخليا ،ونقاش ارث التنازع القومي والتركة الاستعمارية، ولهذا لازلنا نعاني مع جيراننا الأسبان مشكلة الاحتلال ومشكلة الوهم الجاثم على ذاكرتهم التي لم تخضع لعملية المراجعة التي تمليها أية عملية انتقال ديمقراطي طبيعي بمصفاة العدالة الانتقالية. ملاحظة على سبيل الختم كان خطأ السلطات المغربية فادحا وجسيما حين اختارت منطقة بليونش وجبل موسى و منطقة القصر الصغير التي تطل على اسبانيا أماكن لإقامة مراكز الطاقة الهوائية بمروحياتها الضخمة التي ترى من اسبانيا طواحينا هوائية بارزة ستظل دائما تدفع الدونكيشوط القابع في الوعي الاسباني إلى المجيء لمحاربتها تخليدا لتقاليد الفروسية الجوالة.