لو كانت بعض الأفواه مِخدة منفوشة بالصوف، لحولت اللسان إلى مغزل لا يجيد سوى حياكة الشكوى وتطريز الأزمة، بلغة لا يعوزها إلا الإبرة لِغَرْزِ عُقد في زربية نفسية تستعرض ألوانا من العاهات...!؛ فهل حقا قطاع الثقافة في بلدنا بكل هذا الخواء الذي يعدي الرؤوس حتى ارتفعت بالونات في الهواء؟؛ ألم تحقق الجهات المسؤولة، بما فيها الوزارة طبعا، لهذا القطاع المعرفي أي شيء يعيد رؤوسنا إلى مستقرها في الأرض..؟ هذه الأسئلة التي لا يعدم قَفيرُ نَحْلها لاسعاً، تعيد لذاكرتي غضاضتها المُطَرَّاة بالحنين، لأرحل دون عجلات، إلى التسعينيات من القرن المنصرم، حين كان الظمأ للمعرفة والإبداع، ولا يزال، لا يطفئه ماء أو حبر؛ لم أكن أجد كتابا أدفن في حقله الملغوم رأسي، ولا يهمني إذا تطاير شظايا من فرط انفجارية الأفكار؛ فأجدني أهرع كي أسُدَّ الثقوب في دماغي، إلى الاستعارة من المكتبات، وأنتهزها فرصة لنسخ الكتاب حتى أقرأه وئيداً بكامل خاطري، بل ما أكثر ما كنا نعيد تدبيج فصول من كتاب بخط يدنا، درءاً للتكلفة المالية، الباهظة علينا وقتئذ، والتي تتطلبها آلة ناسخة؛ اليوم الكتاب في بلدنا يكاد يسقط ثمراً من الشجر، أينما وليت البصر ثمة عرمرم من ركام المصنفات التي اصفرت تحت الشمس، لا يفتحها إلا قلة ربما من الأولين؛ كل فعاليات المجتمع المدني تساهم في إطلاق أجنحة الكتب في بلدنا؛ وزارة الثقافة، اتحاد الكتاب، بيت الشعر، دور النشر المغربية، وحتى الجمعيات؛ ولكن يكاد لا يفتحها أحد؛ تحتاج هذه الكتب فقط إلى قليل من العشق لتحقق وصالها بمناطق نائية خارج المدار الحضري، حتى تستورق بمعرفتها الأذهان، ولا تبقى صحراء قاحلة في هامش البلد؛ أليس الكتاب هو الحقل الرحيب لمن يريد التزود بالثقافة؟؛ فلماذا لا يفتحه الناس لأجل القراءة، بدل أن يفتحوا الأفواه ملء السماء، للرجم بحجر الكلام؟؛ حتى وزارة الثقافة التي كانوا يتخذونها حائطاً قصيراً ويدمغونها بتوصيفات سوريالية من قبيل دار لقمان، قد مارست أخيرا بعض الانزياح عن النص القديم المسنون، فلا تستنكف، رغم ميزانيتها الهزيلة، عن تثوير قطاع الثقافة في بلدنا؛ بالكتاب والمسرح والمهرجان والمعرض؛ إن النقد من أجل النقد لن يُوَلِّد حتما إلا النّكد، وإن فتح كتاب لكفيل بسد الأفواه..!