الهدر بتسكين الدال لغة يعني الرسوب والضياع، وقد أطلق على ظاهرة الفصل والانقطاع عن متابعة الدراسة، نتيجة الرسوب المتكرر الممل، أو لأسباب قاهرة كالفقر، أو المرض العضال، أو المشكل الأسروي المقلق، أو العائلي العويص، أو الحالة المتوترة اليائسة المحبطة المؤثرة في النفس. وليس غريبا أن يطلق على التجارات الفاشلة، فنسميها بالهدر التجاري إذا كثرت، واشتدت خسارتها، وتعرض التجار إلى الإفلاس والفشل والضياع، والتفكير في الهروب من الواقع المر، بوسائل مهلكة. وبما أن له علاقة تربوية بالمدرسة في فترات محدودة، فقد سمي بالهدر المدرسي. وهو قديم، إلا أنه كان قليل الحدوث، نتيجة قلة الأسباب والدوافع. أما اليوم فقد كثر، وغدت ظواهره مزعجة، تلفت انتباه المسؤولين، ولحد الآن تتضارب الآراء في تحديد أسبابه وبواعثه، فمنهم من يرجعها إلى إهمال بعض المدرسين والإداريين أعمالهم التربوية، ومنهم من يقول : إن كثرة محتويات المقررات التعليمية، تضع بعض الفئات في اضطراب وقلق وغضب ونفور، مما يجعلهم يرسبون في الفروض والامتحانات بتكرار، ثم يغادرون المؤسسة، ومنهم من ينطلق من شدة الفقر والحاجة ليثبت السبب، ومنهم من يشير إلى سلوك بعض الفئات السيء الذي يصعب تهدئته، وتحسينه. وأرى أن الهدر المدرسي فشل في متابعة الدراسة، ناجم عن عدة عوامل اجتماعية واقتصادية، قد تنتج عنه عواقب ومخيمة، لأن الفاشلة أو الفاشل يضيع في تيارات مضطربة، تقوده إلى التسكع في الدروب والأزقة والشوارع، وتناول المخدرات، والتسول، والتفكير في القيام بمغامرات، وقد يؤدي ذلك إلى الموت أو الإصابة بمرض خطير، أو كسر جسدي أليم، أو السجن، أو إيذاء بعض الآباء والأولياء وأفراد الأسرة والعائلة بسلوك سيء مضر. وكل ذلك مصدره الفصل والانقطاع عن حق تربوي جليل نبيل، تسيره إدارة عليا قادرة على محاربته، والتخفيف من آلامه وآفاته، إن هي واجهته بعزم وحزم قويين وتقرير حكيم. ولا ننكر ما نراه اليوم على الأرصفة، وفي الزوايا الخطيرة ليلا ونهارا من مجموعات، تختلف عمرا، وتضيع ثقافة، وتحرم من أبسط ضروريات الحياة، تئن وتتألم من فرط التعاسة والشقاء، وإذا استمر ذلك الوضع المؤلم، فسوف نرى ما لا تحمد عقباه. وواجبنا نحن المسؤولين آباء وأولياء وإداريين ومدرسين ومفكرين وأدباء وشعراء ورسامين وصحافيين وسياسيين وجمعويين، أن نبذل كل ما في وسعنا للحد من نمو هذا الوضع الاجتماعي المقلق الأليم، اعتمادا على مبادئنا وتطلعاتنا وبإمكاننا أن نصون ونحمي هذه الفئات المستهدفة من الفشل والضياع، وذلك بالتعاون المثمر، والعزيمة القوية، والحكمة والتبصر اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وأدبيا وفنيا.