قطع المغرب أشواطا كبيرة على درب الإصلاحات السياسية والدستورية ميزته بشكل إيجابي على المستوى الإفريقي والعربي. وهذا يدل على إرادة سياسية من جميع الفرقاء لالتماس المقاربات الكفيلة ببناء أسس دولة عصرية وديمقراطية تتجاوب مع تطلعات الشعب والقوى السياسية ومع التطورات التي تعرفها المنطقة والعالم. من التناوب التوافقي إلى انخراط الإسلاميين في العملية السياسية إلى المصالحة مع الماضي وصولا إلى إصلاح العملية الانتخابية--كلها كانت تطورات إيجابية عززت المشاركة وحرية الاختيار ومبدأ التداول على السلطة. دستور 2011 عزز من سلطات رئيس الحكومة وأقر بمبدأ فصل السلط واعترف بكونية حقوق الإنسان وكرس التعددية الثقافية وأسس بشكل عام لإمكانية تحول ديمقراطي نوعي في المغرب. ومع ذلك تبين الممارسة قصور التجربة المغربية ووصولها مفترق الطرق. هناك أولا، ضعف المشاركة في الانتخابات والعملية السياسية برمتها من طرف شريحة تتأرجح بين 55 و 60 % من المواطنين؛ وهذا يعني أن الديمقراطية كفكرة وكممارسة لا تستهوي أكثر من نصف المغاربة والكثير يرى فيها لعبة غير مجدية ولا تأثير لها على حياتهم اليومية وعلى مستقبلهم. ضعف المشاركة هذا يفوت على الشعب المغربي فرصة أخذ زمام الأمور بنفسه عبر تعبئة شاملة وفرض لاعبين سياسيين قادرين على التغيير والتجاوب مع تطلعاته على الساحة السياسية. كرس ضعف المشاركة استمرار الوضع القائم وساهم في إضعاف الأحزاب وغيب صوت الشعب عن الساحة السياسية.
ثانيا، محاولة إعادة هندسة الحقل السياسي حسب تصورات إيديولوجية وسياسية لفرقاء معينين خلق صراعات هامشية ومحاولات (فاشلة في جلها) لفرض حلول ووصفات ظهرت وكأنها محاولة لتهريب الديمقراطية واختزال صوت الشعب في تصور معين وخلق أعداء وهميين للديمقراطية...عكس ما كان يقع في الماضي حين كانت إعادة هندسة الحقل السياسي تعطي فرقاء جدد قادرين على إعطاء نفس جديد وربح الوقت، فإن العملية في العقد الأخير باءت بالفشل نظرا لتطور وعي الشعب ولوجود مجال للحريات منفتخ نسبيا يتيح التداول وتبادل المعلومات والآراء ويحبط الخطط رغم الإمكانيات التي ترصد لهذه الأخيرة.
ثالثا، عدم اقتناع الفرقاء السياسيين بجدوى التحول الديمقراطي. عبد الإلاه بنكيران (أول رئيس حكومة بعد دستور 2011) صرح أكثر من مرة بأن الدستور أكبر مما تحتمل البلاد، بل ولم تكن أولويته حين كان رئيسا للحكومة توطيد الخيار الديمقراطي ولكن دعم المؤسسات التقليدية وضمان انخراط عاد للإسلاميين في تسيير دواليب الدولة دون صراع مع قوى معادية أو مناوئة لهم. تطبيق الدستور ودعم مبادئه فيما يخص تقوية دور رئيس الحكومة ومسؤولية البرلمان ومبدأ فصل السلط ودعم مشاركة المواطنين عبر الحصول على المعلومة والترافع والدفع بلادستورية القوانين لم تكن أولويات بالنسبة إليه وحتى القوانيين التي صدرت في هذا الشأن فقد أتت بعد تردد كبير وعن مضض.
نفس الشيء بالنسبة للأحزاب التقليدية الوطنية منها والإدارية. فقد كان همها الوحيد ليس توطيد العملية الديمقراطية ولكن الصمود في وجه الإسلاميين والمفارقة أنه كلما صعدت ضد هؤلاء كلما تقوى عودهم. لم تدرك هذه الأحزاب أن أحسن وسيلة لكي يصير الفرقاء عاديين هو الاحتكام لصوت الشعب والتداول على السلطة وإقرار مبدأ المسؤولية والمحاسبة. اختزال دور الأحزاب في مصارعة الإسلاميين لم يعطها الفرصة لتجديد خطابها وللانفتاح على المواطنين وتجديد نفسها.
رابعا، إضعاف الأحزاب عبر تبني مقولة كانت بمثابة نبوءة حققت ذاتها بذاتها. قبل أكثر من عقد من الزمن توصل بعض الفرقاء إلى قناعة مفادها أن الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي قادها جلالة الملك لا تجد وسطاء لها في الساحة السياسية قادرين على ترجمتها إلى سياسات عمومية وبرامج قادرة على تعبئة المواطنين وهو ما ولد الإحباط عند هؤلاء فوجدوا ملاذهم عند قوى محافظة مثل العدالة والتنمية أو العدل والإحسان. لهذا وجب خلق فاعل جديد قادر على لم شتات النخب والقيام بعملية انصهار جديدة لكل الحساسيات اليسارية والليبرالية والتقليدية في قالب واحد يتوخى تبني الإصلاح وترجمته إلى سياسات ناجعة وفاعلة. تطبيق هذه الفكرة على أرض الواقع لقي تحديات كبيرة مما جعل الكل يقتنع باستحالة نجاحها. النتيجة هي إضعاف الأحزاب التقليدية والمساهمة في سطوع نجم العدالة والتنمية. لم يتم فقط الفشل في إيقاف تنامي دور الإسلاميين ولكن تم تقزيم دور الأحزاب الأخرى وتدجين الكثير منها، بل وتقويض صورتها عند المواطن المغربي.
ما العمل اذا؟ الحالة السياسية في المغرب عند مفترق الطرق. انتخابات 2015 و 2016 أفرزت سلوكات تؤشر على تراجعات كبيرة فيما يخص العملية الانتخابية. إخراج حكومة العثماني إلى الوجود أتى بعد أشهر من "البلوكاج" لم يخرج منه أي أحد منتصرا لأنه كرس نظرة سلبية للعملية الديمقراطية على أنها فقط عملية شكلية وأن مكامن السلطة والقرار موجودة خارج الهيآت المنتخبة. أزمة الثقة في المؤسسات والمنتخبين تزداد تفاقما يوما عن يوم مما يترك المجال فارغا لحركات خارجة عن الحقل السياسي الحالي قد تظهر في أي لحظة لتأطير الشارع والتأثير فيه.
لا محيد عن وضع جيل جديد من الإصلاحات الدستورية والسياسية تتجاوز مفارقات ونواقص التجربة الحالية. أولى هذه الإصلاحات هي التحديد السليم والواضح لاختصاصات رئيس الحكومة والحكومة وضبط سلطتها مع تحديد الوسائل التي تتوفر عليها من أجل القيام بعملها. التشارك في السلطة يقتضي تحديد الأدوار والوسائل بشكل لا غبار عليه. ثانيها، هو توضيح الفصل 47 من الدستور لكي يتم تحديد البدائل الممكنة في حال تعذر تكوين الحكومة مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية تحالف قوى معينة من أجل خلق "بلوكاج" مفبرك لمنع حزب معين من قيادة الحكومة. ثالثا، وضع حد لمحاولة إعادة هندسة الحقل السياسي وذلك عبر تقوية دور الأحزاب وإعطائها الوسائل والحرية لكي تقوم بدورها التأطيري للمواطنين. رابعا، خلق هيأة وطنية مستقلة للانتخابات لها من الوسائل والقوة والسلطة لتنظيم وتتبع وإنجاح العملية الانتخابية بحياد وتجرد.
خامسا، دعم الجهوية عبر تقوية دور الجهات وإعطائها الوسائل ومراقبة عملها ودعم اللاتمركز وإعادة النظر في دور الولاة التأطيري والرقابي كممثلين للدولة على المستوى الجهوي. سادسا، دعم دور المجتمع المدني عبر تقوية الحكامة والمراقبة وضمان الولوج للتمويل. سابعا، إعادة النظر في التقطيع الانتخابي ونظام التصويت والعملية الانتخابية لإفراز نخب قادرة على إيصال صوت الشعب للبرلمان والحكومة. ثامنا، إعادة النظر في بنية الجماعات الترابية ودورها ومواردها وطريقة عملها وتحديث تدبيرها وذلك لكي تلعب دورها في تدبير شؤون المواطنين اليومية. تاسعا، إعادة النظر في بنية البرلمان الحالي بشكل يقلص من رتابته وعدد أعصائه ويضمن نجاعته وينقص من تداخل اختصاصات غرفتيه ويعمل على تقوية دوره الرقابي ومساهمته الفعلية في التشريع ووضع الميزانية؛ عاشرا، تقوية دور الإعلام عبر الرفع من مهنيته واستقلاليته وحريته. إحدى عشر، تقوية دولة الحق والقانون عبر دعم حكامة القوات الأمنية ودعم استقلالية وتجرد المؤسسات القضائية.
الديمقراطية مسلسل طويل ولكنها ممكنة إن توفرت الإرادة والرغبة عند جميع الفرقاء. ولا تنمية بدون ديمقراطية. المشاركة وإيصال صوت المواطنين أساسي للتنمية ولا يتأتى ذلك إلا عبر وجود مؤسسات قوية لها مشروعية دستورية واضحة. خطى المغرب خطوات مهمة في وضع لبنات الانتقال الديمقراطي. آن الأوان لكي يبدأ في تحقيق الانتقال الديمقراطي الفعلي الذي يضمن استمرارية توابث الأمة في ظل الاحتكام إلى صوت الشعب والمواطنين.