أعترف أنني وجدت نفسي مجبرا على أخذ نفَس طويل، وأسترشد بحبل من مودة لا يرى، كما يفعل أي هاو أمام قمة عالية، وأن أعدد مواهبي التي تسمح لي بأن أغامر في الحديث عن محمد بهجاجي،لم أجد سوى مهارة واحدة، ضمن كل المواهب المطلوبة للحديث عنه، هي أنني أحببته كصديق وأخ وزميل، محبة صادقة، وكأنني شعرت أنها لا تكفي، ضاعفتها بقدر كبير من الاحترام، حتى أنني أذكر جيدا أنني لم أرفع صوتي أبدا في حضرته، و هو شاهد أنني طالما تلكأت في التعبير، ولو بالموجز أوبالحبر السري، عندما اختلف معه. لا أذكر تاريخا محددا للمودة ولا للتقدير العميق ولن أجازف إذا قلت أنها نبتت على ضفافه، لأن النهر الأول الأصلي والمتدفق بدأ بالنسبة لأبناء الشبيبة من جيلي ، أولائك الذين لفحتهم شموس الأدب مع مطلع الالتزام، كان هو نهر التقدير، لهذا تحتفظ المودة بلغة متقشفة خجولة، تسهر مثل قمر شاحب يفكر كيف سيقطع السماء العريضة والمتناهية الأزرق الكحلي أمامه؟ أنا أمامه الان أسأله على أعتاب عمر جديد، متى داهمتي مودته؟ ولا أذكر سوى أنني وسط هالة الحضور الكثيف لاسمه، لا أعرف. محمد بهجاجي، هو التباس اسمينا، مرة يهدونه كتابا في بغداد وينضدون الكلام الطيب باسم محمد جماهري، ومرة تستدرجني المذيعة في القناة الثانية بخطأ جميل لا يحتمل صوابا آخر غير القلب، باسم عبد الحميد بهجاجي، لهذا ربما أعيش باحتمال كبير أنني بهجاجي، وأن نرسيس هو الذي يجعلني أقدره بعمق؟ ربما، لأن محمد السي محمد بالتحديد كيان مفعم الكينونة ، يفيض عن نفسه، ويقتسمها مع آخرين في سخاء من يتعجل التفرغ إلى ماهو أعمق في الحياة: الانسانية. له ثلاث صور في ورشة الاعماق: السي محمد، مع اللغة: يكفي أن نرتب الوشاية جيدا ونخبره بأن بلاغا عاجلا صدر بأن فاصلة ما أو نقطة أو أحيانا مزدوجتين تم العثور عليها خارج النص، حتى يخف ويرق ويسارع، ككاردينال في كنيسة ارثوذوكسية إلى إعادة الخراف التائهة إلى حظيرة اللغة .. . من سوء حظ اللغة - أو من حسن حظ المعنى - أنها كلما استمرأت كسلنا وتقريبيتنا في النحو والصرف، وجدت بهجاجي ليعيدها ويعيدنا أيضا إلى صواب "»سيبويه"« والسلم الموسيقي. وأكاد أجزم بأن تعامله - معها- أخلاقي قبل أن يكون بلاغيا، ذلك، لأنه لا يحتمل "»الزيغ«" حيث لا يجب ولا يحتمل أن يكون الضمير واللغة في حالة ارتباك. لهذا نحتاجه لتصحيح اللغة... ولتصحيح العاطفة لأنه يعرف ربما بحدسه المتنبه دائما، نحو الصداقة la grammaire de l'amitie ينتقل منها من وضع نثري في تفاصيل الحياة المملة إلى لحظة شعرية، ربما التقطها حسن نجمي في قصيدته، محمد بهجاجي، لكن من المؤكد أنها مازالت تقيم في مسافة الالتباس (استعمل كلمة يحبها) بين التجلي و..مواصلة التخفي. عندما نبحث في الجريدة مثلا عن كبير المفاوضين الذي سيقنع الجميع بحكم، نعود إليه كما لو أننا نناشده: رتب حاضرنا بما عرفته من أعماق ماضينا السي محمد مع المسرح: لا أحد مثله، يعلق الحكمة ويفسح للسخرية طريقها السيار، لا أحد مثله، جَلَدنا، وهو معنا، بفرشاة لسانه الساخر ، بنقمة الثملين، من مفارقاتنا، في الحزب، في العائلة، في الادب في الصحافة، في الصداقة. على عكس ما تعتقدون، كان حديثنا يدور كثيرا حول.. السينما، يعيد السي محمد، بدقة نحات، حكاية الفيلم الذي أعجبه ويستدرج السمع، في كل مرة، بكلمة السر الأثيرة لديه :"عزيزي"! المسرح الذي يسكنه، يحوله، كهندي قديم، الى شخصية تمتص قوة الشخصيات الأخرى، لتعيش حياة غير التي كتبها هو السي محمد مع السياسة: لا يعتبر ان من علامات النظافة، أو حسن اللياقة، ان نغير افكارنا، مثلا... الملابس! فهو يدرك ان الذي يترك المبادئ تسقط في مراحيض السياسة، لاشك انه سيفكر بعقل انتهازي تفوح منه روائح كريهة للغاية! وعندما نكون وجها لوجه مع اليأس، يدعونا الى اغتنام الفرصة لكي نعرفه (أقصد اليأس) جيدا، لكي نتذكره جيدا، لكي نعيشه جيدا، ونتفرس فيه جيدا، كمثل قاطع طريق علينا أن نتذكر ملامحه! فتلك طريقته في آن نتفاداه غدا، بالضحك، بالفلسفة، بالنكتة، بالذكريات.. وبالصمت الثمل أحيانا كثيرة. وكلما امتلأت الكأس كنا نفرغها وكلما فرغت كنا.. نفرغها مرة أخرى. ونتعجب ، كشاعر كردي ، من كأس ارواحنا كيف لا تساقط منها الخمرة، وهي مكسورة من مكان! -هل هو الوقت المناسب اليوم، لأعدد كم حكمة، قطفتها من حياة اقتسمنا اخطاءها وجنونها ورهبتها معا؟ جوابي أنه : في العلاقة، علمني ان استطيع العيش بعد اخطاء تقلق دماغي، وفي السياسة علّمَني أنني لا يجب أن احاكم الناس بناء على نوعية معارفهم ومرافقيهم، كأنما قال لي، او خلته قال: هاهو يهوذا الاسخريوطي، الذي خان المسيح، كان له أصدقاء لا تشوبهم شائبة، ويقصد الحواريين.. ومع ذلك اقترف أكبر خطيئة في حق البشرية وفي حق السماء معا! وفي الجلسات، علمني، ان الكأس تقتل قتلا بطيئا، لكن علينا الا نأبه او نكترث للامر.. لأننا لسنا على عجل! (مازربانينش)..! في الكتابة، علمني أن الكاتب مهما كان ثقيلا في وزن البلاغة، فإنه لايزن شيئا، لهذا لا تتساهل مع الظل في الكتابة... ويربي في ذلك توجسه، كما يرعى آخرون ارصدة بنكية ، لأن الكتابة عنده ليست لعبة لكي نتركها للتقدير الجسدي او الاحساس الفيزيقي باللذة، إنها توصيف ذهني للانتماء. في النهاية، السي محمد ، كما يناديه الجميع، بمن فيهم اهله الاقربون- الأخوات ، الإخوة، الأهل والزوجة- صوت داخلي نحمله باستمرار، ونحاوره ونحتكم اليه، عندما نسلط أضواء روحه، لكي نرى اخطاءنا جيدا. نسيت العصب الأخلاقي الرائع: الشجاعة، التي لاتنقضها الحكمة، الطيبوبة، والكبرياء، والصرامة الممزوجة بالليونة . كل قلبه قلب، ليس فيه اي جيب للانتهازية، لاخلاق الاب غوريو، للحسابات المدرة للربح،إنه قلب مطلق، غاية في الديكارتية العاطفية.