تتساقط أوراقهم من شجرة العمر قبل الأوان . تطوى صحائفهم حتى قبل أن يجف مداد توطئة كتاب الواحد منهم في درب الحياة... إنهم أطفال ويافعون ، من الجنسين ، بعضهم أتمّ بالكاد عقده الثاني ، " اجتازوا " ، في غفلة من الجميع، خط "اللاّعودة " ، تاركين لأسرهم الصغيرة لوعة فراق لن تخبو جذوة قساوتها مهما تعاقبت السنون والعقود ، ول"مجتمعهم الكبير" أسئلة حارقة قوامها : من المسؤول ؟ مقدمة " قاتمة" استدعاها اتساع دائرة الإقدام على " أقصى الخطوات" المتمثلة في وضع حد للحياة في صفوف الفئات العمرية الناشئة ، وذلك في "سياق عام " ارتدى في ظله هذا "الفعل" لبوس "الظاهرة " مع مطلع القرن الواحد والعشرين ، كما يستشف من معطيات رقمية مقلقة تضمّنها تقرير سالف لمنظمة الصحة العالمية تحت عنوان " الوقاية من الانتحار ضرورة عالمية "، والتي سجلت "تضاعف عدد حالات الانتحار بالمغرب ما بين سنتي 2000 و 2012 ، ليبلغ التغير الحاصل، خلال 12 سنة ، ما يناهز 97.8 في المائة من عدد الحالات" ، مؤشرا على ارتفاع من 2.7 حالات عام 2000 إلى 5.3 حالات انتحار من بين كل مائة ألف مغربي سنة 2012 " . وضع تحمل "رسائله" في طياتها كل بواعث الخشية بشأن القادم من السنوات، بالنظر لجسامة ما يستفيق على وقعه سكان أكثر من منطقة ، حضرية كانت أم قروية ، مع فجر كل يوم جديد . لنتأمل "مضمون " هذه النماذج ذات التاريخ الحديث . " يوم 21 ماي 2016 أقدم طفل - 13 سنة - على الانتحار بواسطة حبل بأحد أحياء تاوريرت ". " اهتز حي الزيتون " دوار المخزن سابقا " بتاوريرت ، يوم السبت 28 ماي 2016 " ، بفعل فاجعة إقدام طفل - 12 سنة - يتابع دراسته في السنة السادسة ابتدائي ،على وضع حد لحياته بواسطة حبل ربطه بعمود خشبي بسقف إحدى غرف منزل أسرته، ولفّه حول عنقه". حالتا انتحار سجلتا ، مؤخرا ، بويسلان بمدينة مكناس ، همّتا تلميذتين قاصرتين تناولتا سمّ الفئران. أمثلة كثيرة ، للأسف ، تتباين "مسارح "وقوعها، لكنها تتوحد في مأساويتها، التي تنقلب مسارات أسر عديدة ، تحت وطأتها القاسية ، رأسا على عقب، ليصبح الإحساس ب" غدر الزمان " عنوان يومياتها المنكسرة . كيف لا والأمر يتعلق بفلذات الأكباد، الذين تهون في سبيل "اشتداد عودهم " كل التضحيات والصعاب . مأساوية سبق أن عدّد الباحث السوسيولوجي "عياد أبلال" بعض أسبابها ، من ضمنها :" غياب الدفء الأسري و المساندة الوجدانية..." ، علما بأن " الأسرة كانت في السابق تلبي ، بشكل أو بآخر ، مختلف متطلبات الأطفال ، كما تعمل على أن يكون هناك إسناد وظيفي للأنساق المكونة لشخصيتهم ، قبل أن تنتقل من شكلها النّواتي إلى الممتد ، حيث تخلت عن عدد كبير من الأدوار لصالح المدرسة ، والشارع ..." و" اكتفت بلعب دور المؤمّن للجوء السكني للطفل أو المراهق.."! هي تغيّرات متعددة الأوجه أصابت " النسق الحياتي العام" لغالبية الأسر ، باختلاف تصنيفاتها الاجتماعية ، حولت يوميات الآباء والأمهات إلى "معارك متواصلة " لا تكاد تضع الواحدة منها أوزارها حتى تندلع شرارة أخرى ، بفعل السلسلة اللامتناهية لإكراهات ومتطلبات "المعيش اليومي" ، التي يحدق بها الغلاء من كل جانب. معارك تجعل معيلي الأسرة - الأب و الأم - أمام معادلات مستعصية الحل تتجسد في تضحيات خارج البيت، بحثا عن مدخول إضافي لمواجهة مصاريف حاجيات الأبناء المتصاعدة ، مع ما يعنيه ذلك من غياب "جسدي" والاكتفاء ب" الحضور التكنولوجي" ، من خلال استعمال وسائل الاتصال الحديثة . ترى هل " اللقاء عن بعد" ، بواسطة تقنية "سكايب" أو غيرها ، بمقدوره أن يعوض " لقاء الأحضان " تحت سقف البيت الأسري ، بما يوفره من حرارة ودفء لا يحس بأهميتهما سوى من اكتوى بسياط التشرّد بالشارع العام ؟ ألا يشكل الاكتفاء ب " الحوار المالي " ، في تنشئة الأبناء ، بمبرر أن كثرة الانشغالات لا تسمح بتخصيص أوقات لإغداق قسط من الحنان على ابن داهمته المراهقة على حين غرّة ، وهو أعزل من غير توجيهات أبوية تهدئ من روعه وتجعله يجتاز المرحلة بأقل "الخسائر" الممكنة ، أو على ابنة حوّلت "الهجمة الهرمونية " على جسدها الطري، ابتسامتها العفوية إلى وجوم جعلها قاب قوسين أو أدنى من الاكتئاب، في غياب تطمينات أمّ لا تترك لها أجندة "المسار المهني" أي مساحة زمنية للإنصات إلى " صرخات" صغيرتها ، ألا يشكل هذا الوضع مدعاة للقلق والخوف الشديدين ؟ نعم، تحديات الحياة العصرية عسيرة وشائكة ، وضغوطاتها أمواج بحر متلاطمة، والتطلع إلى تغيير المستوى الاجتماعي يبقى حلما مشروعا ...، لكن كل هذا لا يبرر رفع "الراية البيضاء" أمام تزايد عناوين ظاهرة "انتحار الطفولة " ، التي تظل مسؤوليتها تسائل الجميع - أسرة ومؤسسات رسمية ومدنية ..- حتى ولو اجتهد البعض في تحميل تداعياتها الباهظة للغير. فرجاء لا تتركوا البلاد بلا مستقبل .