تحدث «نيقولاي غوغول» في قصته «يوميات رجل مجنون» عن الطريقة التي يفكر بها المجنون، حيث يعتقد بأنه على صواب وأن الآخرين كلهم على باطل. ويظهر لي أن جماعات الإسلام السياسي تدخل ضمن هذا الصنف من البشر، لأنها تتسم بنزعتها الطائفية التي تجعلها تعتقد أنها على حق والآخرون على ضلال، إذ ترفض قطعا وجهة نظر الآخر، وهي مستعدة لقتل الجميع كي لا يختلف معها أحد... تشكل الطائفية نهجا سياسيا يعتمد الطائفة، ويعمل على فرض هيمنتها السياسية عبر التعصب لها ورفض الطوائف والأفكار الأخرى... وتنهض الطائفية عندنا على أيديولوجية دينية تؤول النص الديني بما يوافق أغراض زعامات جماعات الإسلام السياسي وأهدافها، ويمنح شرعية لوجودها هي في حاجة إليها. وهناك تناقض كبير بين التدين والنزعة الطائفية، إذ ليست هذه الأخيرة سوى الوجه الاجتماعي للإسلام السياسي الفاقد للصفة الإسلامية، الأمر الذي يفسح المجال لنشوء الخرافات وتشويه الهوية الإسلامية وإفراغ الشعائر من معناها، والتحايل من أجل استغلال الدين خدمة للمصالح الخاصة وتسخيره لتثبيت نفوذ وسلطة لا يمتان إلى الله بصلة. وتؤكد التجارب المعيشة اليوم أن نفوذ حكومات جماعات الإسلامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يسعى إلى خدمة المجتمع والتفاني في ذلك، وإنما إلى تعظيم الطائفة على حساب الغير، بل والفتك به... تشتغل الطائفة على وعي الأغلبية المغيبة الغارقة في مشاكل العيش اليومي من جراء الفقر والجهل، ما يجعل الناس يعيشون فراغا ثقافيا وفكريا كبيرا، الأمر الذي يدفعهم للانجذاب نحو القوالب الثقافية الجاهزة التي تحول دون تقدم الإنسان عبر تقييد حريته، وتعطيل قدرته على التفاعل مع العصر وعزله. وهذا ما يفضي إلى سلبه إرادته وتحويله إلى مجرد ترس في آلة تدور بعماء وغباوة رغم إرادته. تُحَرِّف الطائفية الصراع الاجتماعي والسياسي عن مساره السليم وتحول دون تطوير البديل الديمقراطي، لذلك فإنه لا يمكن تجنبها إلا عبر التحديث والبناء الديمقراطي، لأن الدولة الديمقراطية تشكل مركزا توحيديا لجميع الأديان والمذاهب والاتجاهان والأفكار، حيث تتوفر في إطارها شروط التعايش السلمي والتعاون بين مختلف تنويعات المجتمع الفكرية والدينية والثقافية واللغوية والسياسية في إطار حضاري أساسه دولة الحق والقانون. تبعا لذلك، لا يمكن أن تكون الطائفية ديمقراطية؛ لأن الديمقراطية تنهض على الحرية والمواطنة، كما أن الوطن هو بطبيعته الثقافية والاجتماعية والسياسية والتنظيمية نقيض للطائفة والطائفية، الأمر الذي يعني بوضوح أنه عندما يسود النظام الطائفي يختفي الوطن، وعندما يفرض الوطن والمواطنة والوطنية ذواتهم تذبل الطائفية وتغيب، وبهذا المعنى فإن الطائفية تفضي إلى ضياع الوطن والمواطن... وعندما تحل الطائفة محل الوطن، يسود فيه صراع يتسبب في تآكله وهلاكه، إذ يقتله في الذاكرة والعقول والسلوك، ما يؤدي إلى موته المادي ويحيله إلى عدم عبر إشعال نيران الحروب المدمرة التي تتغذى عليها الطائفية ويستحيل عليها العيش بدونها.