19 يونيه 1965/ الجزائر في الساعة الثانية والنصف صباحا، اقتاد رجال من الجيش الوطني الشعبي الجزائري الرئيس بن بلة من إقامته في فيلا جولي، إلى وجهة مجهولة. قامت عناصر الأمن العسكري في مجموع مناطق البلاد باعتقال المساعدين المقربين من بن بلة أمثال محمد حربي، رئيس تحرير أسبوعية «الثورة الافريقية» التي كانت تغطي جميع أصداء النضالات في أفريقيا، كما اعتقلت جميع الموالين لبن بلة من الجزائريين وحتى الأجانب، كانت الثورة تأكل أبناءها. كان الغموض يلف البلاد، خاصة وأن السكان لم يفهموا إن كان تحرك الدبابات ناجما عن انقلاب عسكري أو بسبب تصوير فيلم «معركة الجزائر» للإيطالي جيلو بونتيكورفو.. ورغم الفارق في التوقيت، تم إخبار فيديل كاسترو على الفور. غضب كاسترو غضبا شديدا على صديقه بن بله الذي كان حسب رأيه ساذجا. أصيب العالم الثالث بالصدمة، وفهم الجميع أن بن بلة انتهى، بينما بدأت تتسرب الأخبار لشرح كيف أن قائد الجيش العقيد هواري بومدين قاد الانقلاب، وكيف أن وزير الشؤون الخارجية عبد العزيز بوتفليقة شجعه على ذلك، في الوقت الذي كان الرئيس بن بلة في سعيه للتحكم في جميع دواليب الدبلوماسية الجزائرية، حاول إقالته. ولأن الرئيس لم يكن يتحكم في هذه الدبلوماسية، فإنه كان يريد إزاحة بوتفليقة المنتمي إلى جناح العسكريين من مجموعة وجدة التي كانت تؤثر في القيادة السياسية للثورة. وكان بوتفليقة يعتبر ماكيافيليا خطيرا. مع الإنقلابيين قرر التحرك، قبيل انعقاد مؤتمر «بوندونغ2» بالجزائر، اللقاء الكبير لرؤساء دول عدم الإنحياز بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحركة. لقد أعطى الصحافيان جيرار شاليان وجولييت مانس في كتابهما «الجزائر المستقلة» الصادر سنة 1972، تقييما واقعيا للإنقلاب العسكري «سقوط بن بلة لم يؤد لا إلى ردود فعل شعبية ولا إلى هجمات مضادة لأنصاره. لقد أظهر هذا السقوط بوضوح أن بن بلة لم ينجح لا في بناء الدولة ولا في تشكيل حزب. وسلطة بن بلة كانت قائمة على استعماله الذكي للتناقضات الموجودة داخل المجتمع الجزائري، وفي المقام الأول داخل البورجوازية الصغرى التي كان نظامه المعبر عنها». خلال الأيام التي سبقت الإنقلاب، كان بن بلة قد انضم، داخل المكتب السياسي لجهة التحرير الوطني، إلى جانب المقترحات الأكثر ثورية التي كانت تريد تطوير التدبير الذاتي على المستوى الاقتصادي... «لكن سقوط بن بلة لا يعود لكونه كان يريد إقرار هذا البرنامج الاقتصادي صبيحة 19 يونيه. بل سقوطه يعود، حسب الصحفيين، إلى أنه كان ينوي استغلال فائض السمعة التي تمثلها هذه الإجراءات عشية المؤتمر الأفرو أسيوي المقرر في الجزائر في نهاية يونيه حتى يتمكن من تصفية رجال الجيش الوطني الشعبي وتنحيتهم من المناصب الحساسة، لاسيما بوتفليقة. ويوضح الصحفي البولوني كابوتشينسكي في نفس السياق قائلا «الحلقة الضعيفة في عقيدته السياسية، هو علاقته بالحزب، وهذا بالضبط ما أدى إلى سقوطه. وفي غياب التحكم في العناصر الثلاثة للسلطة (الحزب جهاز الدولة، الجيش) لابد لقائد سياسي على الأقل أن يتحكم في واحد من هذه العناصر الثلاثة. وبن بلة لم يكن يتحكم في أي شيء». ومهما كانت أهمية السياسية الداخلية، فإن دور المؤتمر الأفروأسيوي كان حاسما. وعشية الإنقلاب شرح بن بلة في برنامج «خمسة أعمدة على الأولى»للتلفزيون الفرنسي، ما يأمله «يجب تصور المؤتمر الأفروآسيوي وفق عناصر أوسع مع الدول التي بها نفس المشاكل. يجب أن يتوسع ليشمل دول أمريكا اللاتينية». ويضيف أنه بإمكان السوفياتيين الإنضمام كدولة آسيوية. لكن التنافس مع الصينيين يجب أن يحل بينهما، بين أحزاب شيوعية، بينما دول العالم الثالث يجب أن تبقى محايدة تجاه هذا الصراع. في القارة السمراء كانت ردود الفعل على الإنقلاب منددة. في غانا ندد نكروما بموقف الصينيين الذين رحبوا بالإنقلاب واعترفوا على الفور بالنظام الجديد في الجزائر، وأرسلوا وفدا رفيعا إلى الجزائر. وبدت الصين سعيدة أكثر من موسكو بهذا الإنقلاب، وفهمت أن ذلك سيكسر محور القارات الثلاث. وقد استغل زهوانلاي الذكرى العاشرة لمؤتمر بوندونغ ليعلن من أندونسيا أن الصين تفكر جديا في تأسيس بنية دولية جديدة لتجميع القوى الثورية عبر العالم. والهدف إبعاد موسكو ونسف مؤتمر هافانا وتفكيك «مجموعة الستة» التي كانت تقود معركة التحرر من الاستعمار في أفريقيا (الجزائر، مصر، غانا، غينيا كوناكري، الكونغو برازفيل وتانزانيا). بالرغم الخسارة الكبيرة التي مثلها سقوط بن بلة بالنسبة لمشروع منظمة القارات الثلاث، فإن العديد من أبرز قادتها كانوا براغماتيين واعتبروا أنه يتعين مواصلة التعاون مع الجزائريين دون انتقادات لقيادتهم الجديدة. بقي معرفة موقف المهدي بن بركة ماذا سيفعل؟ لم يكن سرا أن بركة كان في السابق يجد نفسه أكثر قربا من محمد بوضياف أحد القادة «التاريخيين» للثورة الجزائرية سنة 1954، والذي أبعد من طرف رفاقه غداة الاستقلال في صيف 1962. هذا الأخير زار كوبا نهاية 1962 وتباحث مع شي غيفارا وشخصيات مختلفة من الأوساط اليسارية الأرجنيتنية حول سبل تطوير حرب العصابات في أمريكا اللاتينية. وفي شتنبر من هذه السنة (1962) أسس بوضياف حزبا معارضا سريا، هو حزب الثورة الاشتراكية الذي كان سببا في الجفاء بينه وبين بن بلة، لكن مع هذا الأخير تعاون بن بركة بشكل وثيق منذ سنتين من أجل تطوير التحالف النضالي للقارات الثلاث. يوم 20 يونيو خلال عشاء مع الباحث الفرنسي جاك بيرك بالقاهرة، حكى له المهدي نكتة: «في ماي، قبل مؤتمر غانا كنت مع بن بلة في الجزائر، كنا نتجول في سيارته الألمانية الصغيرة وكنا نعبر نفق الكليات، حكى لي أحمد بن بلة عن التوترات القائمة بين السلطة السياسية والجيش، وهنا تساءلت« ماذا لو اتفقوا ضده؟» عمليا، اتفقوا ضده. بن بلة كان يقضي مصيره في سجنه، لكن بالنسبة لبن بركة المسكون بمشروعه العالم ثالتي كان هناك حل واحد: ارسال صيغة جديدة من تقريره إلى بومدين مع رسالة لتشجيعه على مواصلة المعركة من أجل ميلاد منظمة القارات الثلاث. ومع ذلك لم يكن ذلك بالأمر السهل، لأنه حتى داخل المعارضة المغربية لم يكن كثيرون راضين عن انضمام بن بركة إلى صف بومدين. بعد مدة، التقى أحد قادة الاتحاد الوطني بن بركة في مطار فرانكفورت وعاتب المهدي بشدة على موقفه، اضافة إلى أن الخلاف كان واضحا بين هافانا والجزائر. وفي أعقاب التصريحات النارية لفيديل كاسترو عقب الانقلاب، أقدمت الجزائر على طرد مراسلي وكالة الأنباء اللاتينية من الجزائر واستدعى كل بلد سفيره، لكن العلاقات الدبلوماسية لم تقطع، وبدل العودة إلى هافانا توجه سفير كوبا إلى برازفيل، حيث كان مكلفا بفتح سفارة. ومع بن بلة أو بدونه كان لابد أن تستمر معركة تأسيس منظمة القارات الثلاث.