ها هو برنامج تلفزيوني آخر يتوقف بثه فجأة بأوامر من مُلاك القناة، برنامج «محطة مصر» الذي يقدمه المذيع الصاعد معتز مطر في فضائية «مودرن حرية».. مساء الثلاثاء الماضي كان «معتز» يتحدث في برنامجه عن بعض ما أصاب البرنامج من عثرات وما يواجهه من تهديدات منذ ما قبل الثورة عندما خصص عدة حلقات لقضية الشهيد خالد سعيد، وفجأة قُطع الصوت ثم قُطع بث البرنامج دون اعتذار.. تقول المصادر إن السبب يرجع إلى توتر العلاقات بين «معتز» وإدارة القناة التي لم تكن راضية عن انتقاداته للمجلس العسكري، مما أدى إلى رواج شائعات عن نية القناة إنهاء تعاقدها معه، وتدلل هذه المصادر على ذلك بما جرى في حلقة أخيرة من برنامج المعلق الرياضي مدحت شلبي الذي يذاع على نفس القناة عندما هاجم أحد ضيوفه «معتز» فرد «شلبي» قائلا: «كلها يومين وكل واحد يروح لحاله». قبل ذلك بأسبوع، كانت قناة «التحرير» تشهد واقعة مماثلة بسيناريو آخر.. منعت المذيعة اللامعة دينا عبد الرحمن من دخول الأستوديو لتقديم برنامجها «اليوم»، واتضح من الروايات التي ذكرتها كل الأطراف فيما بعد أن القناة كانت معترضة على النبرة الثورية في البرنامج، وأنها كانت تدبر للتخلص من «دينا» بتعديل عقدها بحيث يتضمن شروطا رقابية أكبر وأجرا أقل.. قناة «التحرير» كانت مسرحا لهزات متتالية في الأسابيع الأخيرة بعدما اشترى 92 في المائة من أسهمها أحد رجال الأعمال المحسوبين على النظام السابق، وبدا واضحا أن النية متجهة إلى تغيير سياسة القناة.. أوقفت وقتها برنامجي «قلم رصاص» بعدما طالبت في حلقته الأخيرة بضرورة وضع صيغة قانونية تضمن عدم تدخل الملاك في محتوى البرامج، وأوقف بعدها إبراهيم عيسى برنامجه، ثم أطاحت الإدارة الجديدة بالبرنامج الذي تقدمه دعاء سلطان. القضية ليست قضية قناة «التحرير» ولا قنوات «مودرن»، وإنما تخص صناعة الإعلام برمتها، سواء تعلق الأمر بالإعلام الخاص أو الرسمي، وسواء كان في مجال الإذاعة والتلفزيون أو كان في الصحافة المطبوعة.. القضية هي تدخل الملكية في الرسالة الإعلامية، وهي ليست قضية جديدة، لكنها تثار الآن على نطاق واسع بعد قيام الثورة وتفجيرها طموحات التغيير، وفي مقدمتها حرية التعبير، كما أنها قضية لا تتعلق بالعاملين في مهنة الإعلام وحدهم، وإنما بالمجتمع كله، بالجمهور العريض المستهلك للسلعة الإعلامية.. سلعة الإعلام ليست مثل أي سلعة أخرى يمكن لصاحبها أن ينتجها على النحو الذي شاء.. صاحب الصحيفة أو القناة التلفزيونية، مثلا، ليس مثل صاحب مصنع البولوبيف.. هو ينتج رسالة فكرية، ويؤثر بهذه الرسالة على ثقافة الشعب وعلى سياسة الدولة وعلى المزاج العام أيضا، ولذلك تسعى القوانين إلى الحد من نفوذ الملكية على الرسالة. في الصحافة المكتوبة الخاصة ينص القانون على ألا تزيد مساهمة الفرد وعائلته في ملكية الصحيفة على 10 في المائة من أسهمها.. وبالرغم من أن هناك سبلا معتادة للقفز على هذا الشرط فإنه غائب في ملكية القنوات التلفزيونية.. أما في الصحافة القومية، فرغم أن الدولة تملكها بكاملها فإن لها جمعيات عمومية ومجالس إدارات يمثل فيها الصحفيون والإداريون والعمال بنظام يختلط فيه التعيين بالانتخاب، وهو الأمر الذي لا نجده في القنوات الخاصة التي يملكها ويديرها أصحاب رؤوس الأموال بلا قيود.. ومنذ قيام الثورة بالذات تدفقت رؤوس الأموال هذه بلا رقيب، وتم ضخ استثمارات يقدرها البعض بنحو ملياري جنيه في السنة الماضية وحدها رغم أن جدوى الاستثمار في هذا الميدان الآن تكاد تكون منعدمة، وليس مؤكدا ما إذا كانت هذه الأموال مصرية خالصة، كما أن الريب يزداد في مقاصدها ومصالحها، وتتصاعد الانتقادات لتأثيرها على الرأي العام. الغريب أن النقاش الذي دار في الأوساط الإعلامية والسياسية مؤخرا ركز معظمه على الإعلام الإذاعي الرسمي، ونادى بتوفير حرية التعبير فيه، وبضرورة تنظيمه وتعديل قوانينه بحيث يكون معبرا عن الدولة، أي عن المجتمع كله، وليس عن الحكومة أو السلطة، وكذلك طُرحت اقتراحات عديدة بشأن الصحف القومية وضرورة إلغاء ملكية مجلس الشورى لها، لكن القنوات التلفزيونية الخاصة ظلت بمنأى عن النقاش الجاد رغم صرخات الانتقاد التي تعالت حتى وصلت إلى قبة البرلمان، ورغم انكشاف الأغراض من وراء قيام بعض هذه القنوات.. الكل يعرف أن إحدى القنوات الناشئة حديثا يملكها عضو بارز في الحزب المنحل ورد اسمه في الأحداث المناهضة للثورة، وأخرى تساندها أموال بعض الهاربين إلى لندن، وثالثة تتهيأ لقيادة حملة عمر سليمان الذي لا تزال تراوده طموحات الرئاسة. كان المنتظر من الإعلاميين، أصحاب أعلى الأصوات في المجتمع، أن يعلو صوتهم تحذيرا من سيطرة رأس المال ودفاعا عن حرية الإعلام ضد محاولات القمع السافرة والمستترة، وربما فعل العديد منهم ذلك فرادى، إلا أنهم لم يتحركوا بشكل جماعي حتى الآن.. كل الطوائف تحتج وتنادي وتتكلم إذا تعرضت رسالتها لأذى، إلا الذين مهنتهم الكلام.. ورغم أن البعض منهم تعرض للقمع من جانب السلطة ومن جانب ملاك القنوات فإن التضامن معهم جاء من جانب المنظمات الحقوقية أساسا، أما تضامن زملائهم معهم فكان مخزيا، وحالة «دينا» و»معتز» شاهد لا يخطئ.. مع ذلك كان هناك في حالة «معتز» استثناء ملحوظ، إذ قامت أسرة برنامجه بالإضراب عن العمل والاعتصام في المحطة، الأمر الذي أدى إلى توقف إرسال القناة.. على ما يبدو، فليس أمام الإذاعيين موقف سوى هذا الحل إلى أن يصدر قانون لتنظيم البث المسموع والمرئي يكبح جماح أصحاب القنوات الخاصة، وإلى أن تكتمل مساعي أبناء المهنة لقيام نقابة تضمهم وتحمي مصالحهم وترتقي بأدائهم. الإذاعيون مدعوون اليوم إلى إنشاء هذه النقابة، ومدعوون في الوقت ذاته إلى الإسهام في وضع القوانين الجديدة المرتقبة لتنظيم الإعلام، ومدعوون إلى مقاومة الضغوط التي تمارسها السلطة ويمارسها رأس المال.. الشهور القادمة حاسمة في تقرير مصير الأمة، وربما لذلك نرى المحاولات تتكرر لكتم الأصوات التي التزمت بمبادئ الثورة.