أخذت السيارة تنطلق بنا مسرعة في قلب القاهرة قبل أن تبطىء من سرعتها شيئا فشيئا لحظات اقترابنا من المكان المنشود الذي طافت ذاكرتي معه ببناياته و منازله وشوارعه التي أعرفها جيدا منذ طفولتي، أحسّست بأنني أعرف كل منزل رأيته وكل شارع اخترقته للتو، أخذت الذكرى تطوف في عالم الطفولة التي فقدت معظمها مشاهدها وشخصياتها لثوان قليلة قبل أن يتوقف بنا السائق ويترّجل متردّدا ويعمد إلى فتح الباب الخلفي لنا بابتسامة صغيرة رسمت على وجهه وبحركة يده اليسرى التي تقول تفضلوا فالرئيس في انتظاركم..... إهداءات زعماء العالم الثالث ما أن ترجْلنا من السيارة الصغيرة السوداء قرب المنزل الصغير بمنشيّة البكري، أحد أحياء مدينة مصر الجديدة التي تعوْد عبد الناصر وعائلته قضاء جُلّ أوقاتهم فيه، حتى أطل علينا طيف الرجل الأربعيني وبدأ بالسلام علينا في بساطة وترحاب متواضعين مرتديا بنطالا من الكتان وقميصا خفيفا مفتوح الياقة، يرسم على محيّاه ابتسامته البيضاء التي تزداد كلما توجهت أنظاره إلى زوجتي روزي التي كانت رفيقتي في تلك الرحلة والزيارة الخاصة.... بدا مضيفنا طويل القامة قوي البنية بما يشبه إلى حدّ ما الملاكم الذي فاق من نومه للتو، ذا تقوّس طفيف في الظهر ونظرة ثاقبة طيّبة تتسارع حدّتها لحظات دعوته لنا بالولوج إلى بيته الصغير الذي يُفضّله عبد الناصر على القصور العظيمة الموضوعة تحت تصرفه، يقطنه على الدوام ومنذ كان ضابطا صغيرا في الجيش، كان بيتا متواضعا رغم أن غرفة الجلوس والاستقبال التي خصصت للقاء قد بدت متماشية مع الذوق العام للبرجوازية المتوسطة بأرائكها ومقاعدها المقلدة تبعا لطراز لويس الخامس عشر دون أن تعكس بطبيعة الحال مكانة رئيس الجمهورية، وليضفي على المكان سحره الخاص فقد ازدانت جدرانها المطلية باللون الرمادي بالصِوْر والإهداءات التذكارية من زعماء حركات العالم الثالث حيث تيتو ونهرو وشوين لاي ونكروما وسوكارتو وغيرهم.. الشطرنج ورعاة البقر كانت الرياح الباردة التي تحاول المروحة الصغيرة ذات الجوانب الثلاثة المعلّقة وسط غرفة الجلوس تفشل بين الفنية والأخرى في تبريد أجسادنا، التي أخذت تغطيها دمعات صغيرة من عرق ذاك اليوم القاهري الحار، وكم كانت دهشتي عظيمة وزوجتي روزي حين أعلمنا عبد الناصر بعدم وجود أي مكيّفات خاصة في بيته الصغير هذا، أخبرنا ذلك وهو يحاول بسط ابتسامته من جديد ويقول بلكنة انجليزية تارة وبالمصرية العامية تارة أخرى: This is my life، هذه هي حياتي البسيطة التي عزمت أن أعيشها وأحياها بعيدا عن بذخ وترف الرئاسة، أريد أن يختلط عرقي هذا بعرق أفراد شعبي وأمتي، قالها وقد عمّت القهقهات أفواهنا وأفواه محمد حسنين هيكل، الذي حضر هذا اللقاء الخاص بعبد الناصر... بعد تلك القهقهات الصغيرة أخذ مضيفنا بالحديث أولا عن نفسه في إشارة واضحة لبثّ الراحة في نفوسنا وإذابة الجليد الذي تشكّل لديّ سريعا حين مقابلتي إياه، انطلق سريعا بالحديث وأخذ يشكو لنا معاناته من الوحدة منذ استقرار أسرته المكونة من أولاده وزوجته في الإسكندرية لقضاء العطلة الصيفية حيث بدا له بيته الصغير (الذي لم نلمح به أي معاونين أو خدم باستثناء الخادم الذي قدم لنا عصير الليمون والقهوة التركية ) موحشا للغاية، محاولا في نفس الوقت إقناع نفسه بكنف العيش، بعد أن أخذ يقول بأنه يعمل كثيرا في المكتب الذي هيأه لنفسه في شقته وهو ما يروق له كثيرا دون تركه لرياضتيه المفضلتين السباحة والتنس، قبل أن يتمادى في البوح لنا بما يعرفه عن خلطائه من ميل لأفلام رعاة البقر الأمريكية وشغف كبير بلعبة الشطرنج التي لم يفوتها أبدا مع صديق دربه المشير عبد الحكيم عامر، أقرب أصدقائه إلى نفسه من بين مجموعة الضباط الأحرار الذين استولوا على الحكم في يوليوز 1952، قبل أن تهتز هذه العلاقة بعد عزله لعبد الحكيم من منصبه العسكري مرغما متألما إثر الهزيمة العسكرية للعام 1967، التي ألقت بظلالها وتبعاتها على المشير الذي كان في ذلك الوقت رئيسا لأركان الحرب .. صمت الاعتذار كان عبد الناصر قد أظهر لي طوال حوارنا الذي استمر ما يربو عن الساعتين فضولا لا حدّ له وقدرة على الإصغاء خارقة للعادة، وقبل أن أتمكن من طرح السؤال الأول في أسئلة الحوار الذي كنت أعد لنشره في صحيفة لوموند، ها هو يفاجئني من جديد حين أخذ يسألني وباستفاضة عن حياتي المهنية وعن نظام عمل وسائل الإعلام الفرنسية وعن الحريات التي تتمتع بها، وزادت مفاجأتي عندما أخذ يتطرّق بالسؤال عن حياتي الشخصية : كم من الأطفال رزقنا وكيف هو مسكننا وبأية وسيلة تأتى لي شراء الشقة التي نقطنها في قلب مدينة باريس بالتقسيط وما هي الفوائد التي يتضمنها القرض المصرفي وبأي نسبة يتسبب سداد الأقساط في إرهاق ميزانيتنا، لكن علامات الدهشة التي أخذت تتزيّن على مُحياي دفعته سريعا إلى عدم إكمال أسئلته عن شخصي مُقدما لي الاعتذار عن تطفله مُفسّرا مسلكه برغبته في معرفة إن كان بإمكانه تزويد المصريين بمساكن منخفضة الكلفة بحيث يتسنى لهم امتلاكها، وفهمت من سؤاله هذا أنه كان يتساءل إن كان مثل هذا المشروع ليس طوباويا في بلد نام لا يكاد يفي دخل الغالبية العظمى فيه بالكفاف من أسباب العيش... بعد صمت الاعتذار ورشفة فنجان القهوة التركية بدا لي من جديد وكأن مكتب الرئيس لم يزوْده البتّة بأي معلومات تتعلق بشخصي كما هو متداول في الإجراءات المماثلة لأي شخص هام، فما بالك برئيس الجمهورية...، احسّست ذلك عندما أخذ يسألني مُجدّدا عن أصولي وحياتي في مصر سنوات الطفولة والشباب مُتفاديا الخوض في الأسباب التي دفعت بيّ إلى المنفى، أسئلة واستفسارات كان من شأنها أن تُظهر لي جيرتي القريبة من عبد الناصر لقرب حيْ مصر الجديدة الذي ولدت فيه من منزله المتواضع بمنشية البكري حيث يجري اللقاء... بطل في عيون المعتقلين بدا لي أن عبد الناصر قد انطلق بأسئلته تلك في عملية استمالة لا يعلم سرّ صنعتها سوى خبراء الاتصال، وبدا لي الجو العام حينها قد أضحى مناسبا لطرح السؤال الأكثر حساسية بين أسئلتي والمتعلّق بالمعتقلات، الذي أحسست بتوقعه إياه نظير سرعته في إيراد الرّد إذ صرّح بهدوء تام قائلا: «....قرّرت الإفراج عن جميع السجناء السياسيين في نهاية هذا العام»، نبأ طار سريعا ليحتل عناوين الصحافة العالمية قبل الصحافة العربية وأخذت تتناقله رويدا رويدا الإذاعات الأجنبية باستثناء الإذاعات المصرية على نحو أثار الاستغراب للجميع رغم أن مثل هذا المنع لم يحل دون وصول الخبر إلى مئات السجناء بفضل تلك المحطات الأجنبية التي كانوا يستمعون إليها بانتظام حتى ضجّت المعتقلات بالفرحة وعمّ الابتهاج الصاخب احتفاءً بالحدث وهبّت رياح التفاؤل على المجتمع المدني المنتمي معظمه إلى اليسار، وجاءتني بالتالي المفاجأة العجيبة لهذا اللقاء والتي تمثلت في أن أصبحت بطلا قوميا في نظر المعتقلين السياسيين الذي أفلح أخيرا في انتزاع الوعد من الرئيس عبد الناصر بعد أن كانت الهوْة الفاصلة بين هذا الأخير والشيوعيين تبدو مستحيلة العبور في تلك الفترة على الأقل نظير إدانة الغالبية منهم بتهم سياسية على رأسها إدانتهم للانقلاب الناصري في يوليوز 1952 وتصفيته للشيوعيين والمحاكمات الصورية التي أدت إلى إعدام الكثير منهم ممّن اصطفوا إلى جانب اللواء محمد نجيب مطالبين الجيش بالعودة إلى ثكناته وما رافق ذلك من انتشار موجة واسعة من الاعتقالات غير المسبوقة عام 1958 بعد أن عبّر الماركسيون عن اختلافهم مع سياسة عبد الناصر المنادية بالوحدة العربية، إذ عابوا عليه فرضه لوحدة مصطنعة تقوم على سيادة الحزب الواحد الذي تم لصالحه حلّ جميع الأحزاب السياسية ونقل النظامين السياسي والاقتصادي في وادي النيل حرفيا إلى سوريا بغض النظر عن بنياتها وعاداتها والظروف المحلية الراهنة آنذاك....