بعد أن رفضت الدول الغربية (ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) طلب عبد الناصر القاضي بمده بالمساعدات المالية لبناء وتشييد السدّ العالي التجأ سريعا إلى الإتحاد السوفياتي، الذي لم يفوّت الفرصة الذهبية مُلزما نفسه بتمويل عبد الناصر بالأموال والتكنولوجيا والخبراء والفنيين في خطوة فريدة اعتبرها البعض بمثابة «هدية القرن»، نظرا إلى ما يمثله المشروع الكبير من أهمية حيوية وما له من منافع كثيرة على عدة أصعدة رغم أنها لم تكن دون مقابل، مقابل سرعان ما اتضح من خلال ما تضمنته الخطابات الخمسة عشر التي ألقاها زعيم السوفيات نيكيتا خروتشوف في مصر طوال فترة زيارته، التي امتدت لستة عشر يوما والتي لم تكن دائما سببا لإسعاد مضيفيه المصريين، بقدر ما راح يعطي دروسا في الماركسية في اعتراض وانتقاد مباشر للاشتراكية التي ينتهجها عبد الناصر، وتمادى في الاستفزاز إلى حدّ الهجوم على الوحدة العربية الشوفينية، في الوقت الذي لم يتطرق فيها إلى النزاع الإسرائيلي- العربي سوى مرة أو مرتين، لتنتهي الزيارة بنتائج إيجابية (رغم حالة الانزعاج التي أثارها وسط مضيفيه المصريين) ليس أقلها تعهد موسكو بتمويل جميع مراحل مشروع السدّ العالي في خطوة عزّزت من وضع ناصر أمام جماهيره التي باتت تناديه باسم ب«أبو مصر الحديثة» وتنادي خروتشوف باسم «صديق العرب المخلص»، في الوقت الذي أضحت واشنطن تعتبر عبد الناصر «بيدقا بيد موسكو». أزمة مثقفين كان عبد الناصر يهدف من كل هذا إلى تقوية الدور الذي تلعبه مصر على الساحة الدولية من جهة، وممارسة الضغوط على الدول النفطية لتخصيص جزء من دخلها لتنمية الشعوب الفقيرة وعلى رأسها مصر، التي تُعّد في أمّس الحاجة لمثل تلك المساعدات في ظلّ مساعيها الرامية إلى تشييد السدّ العالي من جهة أخرى، فها هو السيناريو قد حيك والديكور قد نُصب وبقي تعيين ممثلي الناصرية اليسارية الجديدة هو الهدف الأساسي الآن، في ظلّ الزيارة المرتقبة للرئيس خروتشوف (ظلّ جزء كبير من أهل اليسار موزعين بين الاحتراز والإنكار والتشكك مفضلين الاكتفاء بدور المشاهد)، وأضحى الصمت قد تجمَّل لدى فئات عديدة من الشيوعيين والليبراليين الذين أضحوا طلقاء بعد أن ألغُيْت الأحكام العرفية والرقابة على الصحف واتجه عبد الناصر إلى تكليف محمد حسنين هيكل لحلّ ما عُرف تخففاً ب «أزمة المثقفين»، واتجه رئيس تحرير الأهرام إلى استهداف من بين كل هؤلاء المثقفين أقطاب اليسار الذي يمثل الأغلبية العظمى في المجتمع المدني، فخصص صفحة يومية في الجريدة «للآراء الحرة» التي عهد بإدارتها إلى أحد أقطاب الماركسية ألا وهو لطفي الخولي، قبل أن يسمح له، فيما بعد، بتأسيس مجلة الطليعة لكي تكون بمنزلة لسان حال شبه رسمي للماركسيين، الذين عبّروا عن تحفظهم عبر الرقابة الذاتية. الهوية مقابل الحرية لم يلبث إلا وقت قليل حتى اكتشف المعتقلون مقاصد ناصر الخفية، لا سيما حقيقة اضطرارهم لدفع ثمن غالٍ لقاء حصولهم على الحرية الكاملة، في الوقت الذي ألزموا (أي الشيوعيين) من طرف عبد الناصر بتعهدات شخصية مكتوبة بعدم التصرف ضد مصالح الجمهورية وحلّ جميع تنظيماتهم السرّية نظير إدماجهم بصفة فردية وبوصفهم مواطنين داخل الحزب الأوحد وفي إدارة شؤون الدولة، وهي شروط لم يتقبلها المعتقلون الذين سارعوا إلى إبداء الاستنكار مُعلنين أنه من المستبعد التخلي عن الهوية لاستعادة الحرّية في رسالة واضحة لرفضهم القاطع للتوقيع على شهادة حسن سير وسلوك، مطالبين بإلغاء القوانين المضادة للشيوعيين التي تنص على عقوبات مغلظة بالسجن والتي أصدر العديد منها إبّان الحكم الملكي. زيارة فوق العادة وبعد أن بدا المأزقُ مستحكماً أذعن عبد الناصر، نظراً لاستعجاله القضاء على أسباب الخلاف قبل أن يصلَ إلى مصر الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، نيكيتا خروتشوف، الذي سبق أن رشق أنور السادات (الذي أتى إلى موسكو ليدعوه إلى افتتاح السدّ العالي) بقوله المُراوح بين الجدّ والهزل «..لا أريد أن أخاطر بالتعرض للقبض عليَّ عندكم بسبب معتقداتي الشيوعية»، في إشارة إلى عدم رغبة خروتشوف في الذهاب إلى بلد به المئات من الشيوعيين المعتقلين، الذين سارع عبد الناصر بالإفراج عن آخر دفعة منهم قبل يوم واحد فقط من وصول خروتشوف إلى الإسكندرية ماي 1964 في فترة عدّت الأولى على مدار عشرين عاما بعد أن خلت السجون من السجناء السياسيين الشيوعيين. كانت رحلة الزعيم السوفياتي إلى مصر بالطبع غير مسبوقة في الحوليات الدبلوماسية لكلا البلدين، إذ تظل هذه الرحلة فريدة من نوعها، سواء لأهميتها السياسية أو للأبهة التي أحاطت بمجراها أو لحرارة الاستقبال التي اختُص بها ضيفُ مصر، أو لمدتها التي أثارت الدهشة لفرط طولها، فطوال 16 يوماً كنتُ عضواً في مجموعة الصحافيين المرافقين إلى جانب العديدُ من كبار المسؤولين الروس، فما أن وطئت قدماه خارج الباخرة الملكية حتى أخذت تستقبله وابل من الطلقات المدفعية والبالونات الطائرة والنشيدان الوطنيان، قبل أن ينطلق موكبه في شوارع القاهرة تحت أقواس النصر المشيدة تكريما له في حضور اللافتات العديدة، التي احتفت بالصداقة المصرية السوفياتية في حفل لم يُرَ له مثيل على أرض وادي النيل.