طنجة: وفاة الأربعيني الذي أضرم النار في جسده بشارع أهلا متأثرا بحروقه البليغة    بنك المغرب: ارتفاع الديون المتعثرة ب4,5 في المائة    700 مليون درهم لدعم مربي الماشية وإعادة تكوين القطيع الوطني    وزارة الصحة الإيرانية تعلن مقتل 627 شخصا في الهجمات الإسرائيلية    أولمبيك الدشيرة يحرز لقب أول نسخة من كأس التميز    تفاصيل الحكم بالسجن على بطل الكيك بوكسينغ جمال بن صديق في بلجيكا    موجة حر غير مسبوقة تضرب المغرب لستة أيام متتالية.. الأرصاد الجوية تحذر وتعلن مستوى يقظة برتقالي    أسبوع دموي على الطرقات.. 23 قتيلاً ومئات الجرحى في أزيد من 2000 حادثة سير بالمغرب    مأساة.. أربعيني يُضرم النار في جسده ويفارق الحياة بعد 24 ساعة من المعاناة    الداخلية تشرع في إعداد لوائح المجندين الجدد تنفيذا للتعليمات الملكية    موازين.. الفناير تراهن على التراث والتجديد لمواجهة ضغوط السوشيال ميديا    كأس العالم للأندية.. مبابي يستأنف تدريباته الجماعية مع ريال مدريد    مونديال الأندية.. دورتموند يقهر أولسان وفلومينينسي يفلت من كمين صنداونز    عكس باقي مدن الشمال .. حملات محتشمة بإقليم الحسيمة لتحرير الشواطئ    إعلام فرنسي: أشرف حكيمي قدم موسما استثنائيا ويستحق الكرة الذهبية    نزاع حول حقوق هولوغرام عبد الحليم حافظ يشعل مواجهة قانونية بين XtendVision ومهرجان موازين    ولد الرشيد يجري مباحثات مع نائب رئيس جمهورية السلفادور حول سبل تعزيز التعاون الثنائي    توقعات طقس الأربعاء في المغرب    لجنة مركزية من وزارة الصحة والحماية الاجتماعية تحل بشفشاون لمواكبة التلقيح ضد الحصبة    أول مصنع من نوعه خارج القارة الآسيوية .. المغرب يدخل عصر البطاريات الخضراء باستثمار 20 مليار درهم    انقلاب شاحنة على الطريق الوطنية رقم 2 باقليم الحسيمة يخلف اصابات    بعد وفاة مؤسسه بنعيسى... موسم أصيلة الثقافي الدولي يواصل مسيرته بصيغة صيفية حافلة بالفنون    ابتلاع كيس يحتوي على مخدرات يودي بحياة موقوف بطنجة خلال تدخل أمني    السياحة المغربية تحقق أداء قويا في 2025 بارتفاع العائدات وعدد السياح    انطلاق أول عملية توريق للديون المتعثرة وأخرى قيد الإعداد    اجتماع بوزارة الداخلية لتحديد معايير استخراج أسماء المدعوين لأداء الخدمة العسكرية برسم الفوج المقبل للمجندين    ارتفاع حصيلة شهداء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 56 ألفا و156 منذ بدء الحرب    إيران تؤكد أن منشآتها النووية "تضررت بشدة" جراء الهجمات الأميركية    الملك محمد السادس يهنئ أمير قطر بذكرى توليه الحكم    مبادرة مدنية ترفض حرمان الجمعيات من التبليغ عن الفساد وتعتبره دوسا على الدستور والالتزامات الدولية للمغرب    دراسة تحذر: انتكاسات كبيرة في برامج التلقيح تعرض الأطفال لخطر الأمراض القاتلة            كأس العالم للأندية.. طاقم تحكيم كندي بقيادة درو فيشر يدير مباراة العين الإماراتي والوداد الرياضي    المنتخب المغربي النسوي يبدأ تحضيراته استعدادا لكأس أمم إفريقيا    بنكراد: معظم المحتجين في 20 فبراير بمجرد ما عرضت عليهم المناصب ذهبوا لها وانفضوا    بكين.. مؤتمر يستكشف أوجه التعاون الصيني – المغربي في قطاع السياحة    مع استمرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران جيش الاحتلال يواصل استهداف غزة واتصالات لوقف الحرب وسط وعود جديدة لترامب        طنجة.. كلب يهاجم فتاة وسائق يدهس شابا ويلوذ بالفرار    عودة الدواجن البرازيلية إلى الأسواق المغربية بعد زوال المخاطر الصحية    مقتل 6 من جنود اسرائيليين في قطاع غزة    أكاديمية المملكة تنظم تظاهرة دولية    مجلس النواب الأميركي يرفض مبادرة لعزل ترامب    الجواهري: الإبقاء على سعر الفائدة الرئيسي بسبب تصاعد حالة اللايقين العالمية    ترامب يؤكد مجددا أن المواقع النووية في إيران "دمرت بالكامل"    كأس العالم للأندية لكرة القدم.. فلامنجو البرازيلي يتعادل مع لوس أنجلوس الأمريكي (1-1)    أموال الناظور تمول مدنا أخرى.. أين الأبناك من تنمية المنطقة ودعم الرياضة والثقافة كما أرادها جلالة الملك؟    مجموعة بريكس تدعو إلى "كسر حلقة العنف" في الشرق الأوسط    والي بنك المغرب يدعو الحكومة إلى إنجاح برامج تمويل المقاولات الصغرى    مؤسسة أحمد الوكيلي تطمح إلى إخراج "الآلة" من النخبوية الموسيقية    بعد غياب طويل.. عودة الإعلامية لمياء بحرالدين للساحة الإعلامية بشكل جديد    قهوة بالأعشاب الطبية تثير فضول زوار معرض الصين – جنوب آسيا في كونمينغ    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك رولو و كواليس الشرق الأوسط
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 07 - 2013

«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية .
بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو.
و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،.
في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس.
و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان.
لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير.
بدأ النقاش بين المعتقلين السياسيين فور الإعلان عن قرب الإفراج عنهم. هل ينبغي الانضمام للناصرية دون قيد أو شرط، رغم طابعها السلطوي أم رفض ذلك؟ كان مؤيدو التحالف يشيرون إلى المنعطف الهام لعبد الناصر نحو اليسار في السنة السابقة بإصداره «القوانين الاشتراكية» و كذا بتبنيه «الميثاق الوطني» الذي يضع البلاد على طريق «الاشتراكية العلمية» عوض «الاشتراكية العربية» التي أصبحت حينها متقادمة و لاغية. كانوا يشيرون إلى أن «الرأسماليين الاحتكاريين المستغلين» يتم شجبهم كما تمت مصادرة أملاكهم. كانوا مبتهجين لاستيلاء الدولة على شركات التأمين و على كافة المؤسسات المالية، التي من بينها البنكان الكبيران «بنك مصر» و «ناشيونل بنك أوف إيجيبت». كما أشاروا إلى أن نصف الاستثمارات الصناعية و التجارية قد طالها التأميم.
الموضوع الآخر الذي أدخل السرور على قلوب الشيوعيين «الناصريين» و أبهَجَهُم هو تجذير الإصلاح الزراعي، فقد تم تقليص الملكية الفردية إلى النصف. كما تم تغيير النظام الجبائي بشكل عميق لفائدة الأجور المتواضعة، بينما تم الاقتطاع من الأجور العالية بنسبة تصل أحيانا إلى 90 بالمئة من قيمتها، علاوة على وضع سقف أعلى لأجور كبار الموظفين و رؤساء الشركات. و أصبح عمال الصناعة أطفالا مدللين للنظام، حيث استفادوا من أسبوع ال42 ساعة عمل، و أصبحوا مسيرين ذاتيين لمصانعهم مستفيدين من 25 بالمائة من أرباح هذه المصانع تنضاف إلى أجورهم. كما شجب عبد الناصر «البورجوازية الجديدة» التي تتشكل على هامش النظام «الاشتراكي». إضافة إلى أن «الميثاق الوطني» وهو إنجيل مصر الجديدة، يُدين «الحكم الشخصي» إلا أنه يرفض مبدأ «دكتاتورية البروليتاريا» و يدعو إلى «تعاون الفئات الاجتماعية».
كان السيناريو محبوكا، و الديكور مرتبا، و لم يتبق سوى توظيف ممثلي الناصرية الجديدة اليسارية. بيد أن جزءا كبيرا من الأنتلجنسيا كان حذرا متشككا، فاكتفى بدور المتفرج. فالليبراليون أو الماركسيون المستقلون أو الشيوعيون المُفرَج عنهم أو المُحتجزون، التزموا الصمت. تم إلغاء قانون الطوارئ و كذلك الرقابة على الصحف، و كلف عبد الناصر حسنين هيكل بتسوية ما كان يُطلق عليه آنذاك «أزمة المثقفين». و استهدف مدير الأهرام مثقفي اليسار، الذي كان له ثقله الوازن في المجتمع المدني. فخصص صفحة يومية في الجريدة للرأي «الحر» و كلف ماركسيا مشهورا هو لطفي الخولي بالإشراف عليها، فجعلها هذا الأخير مركز لقاء. كما سمح فيما بعد لهذا الصحفي بإصدار مجلة «الطليعة»، ليجعل منها الناطق غير الرسمي باسم الماركسيين الذين كانوا يمارسون الرقابة الذاتية.
و كان من المنطقي، أن تكون المرحلة التالية بالضرورة مرحلة تصفية معسكرات الاعتقال، المأهولة بالأطر المهنية و المثقفين ذوي القيمة و رجال السياسة المحنكين. فالحزب الوحيد، الاتحاد الاشتراكي العربي، كان في مسيس الحاجة إليهم من أجل تأطير أعضائه، الذين يناهزون الخمسة ملايين. و في هذا السياق وهذا المنظور اختار عبد الناصر المبعوث الخاص لصحيفة «لوموند» للإعلان عن قراره الإفراج عن المعتقلين السياسيين. و بالعودة إلى الوراء تتجمع أجزاء «البازل» كي تشكل لوحة متناسقة للمشهد السياسي حينها.
و رغم ذلك، فما لبث المعتقلون أن اكتشفوا خلفيات تفكير عبد الناصر - أي أداء ثمن الإفراج عنهم غاليا -. فبينما تتم عملية الإفراج بالتقطير على مدى الشهور، كان الرئيس المصري يُطالب الشيوعيين خصوصا بالتزام مكتوب بالامتناع عن العمل ضد مصالح الجمهورية، و بحل تنظيماتهم. و في المقابل عرض عليهم الانضمام بشكل فردي ك»مواطنين» إلى الحزب الوحيد و إلى إدارة الدولة.
أول رد فعل صدر عن المُعتَقَلين هو الشجب: فقد كان تخليهم عن هويتهم مُقابل حريتهم أمرا غير قابل للنقاش. و لذلك أبلغوا السلطات رفضهم التام التوقيع على شهادة حسن السلوك، وطالبوا بإلغاء القوانين المُعادية للشيوعية التي كانت تنص على عقوبات سجنية شديدة، وبعضها يعود إلى العهد الملكي.
كان المأزق شاملا. و في النهاية رضخ عبد الناصر. فقد كان يريد إفراغ الدملة قبل مجيء «نيكيتا خروتشوف» الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي. فقد قال الزعيم السوفياتي، بنبرة قابلة لعدد من التفسيرات، لأنور السادات الذي جاء لموسكو من أجل دعوته لحضور حفل تدشين السد العالي بأسوان: «لا أريد المُخاطرة بالقدوم كي يتم اعتقالي لديكم، بسبب قناعاتي الشيوعية». و تؤكد القصة (التي رواها لي أحد أعضاء الوفد المصري) أن خروتشوف لم يكن يريد التوجه إلى بلد لا زالت معتقلاته تضُم مئات الشيوعيين.
و مع ذلك، فإن آخر الإفراجات تمت قبل يوم واحد بالضبط من وصول خروتشوف إلى الاسكندرية في ماي 1964. و يستحق هذا التاريخ أن يُسجل: فلأول مرة خلال عشرين عاما تكون سجون مصر فارغة من أي معتقل سياسي شيوعي. كانت زيارة القائد السوفياتي لمصر بدون شك، لا سابق لها في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. و ستبقى الزيارة فريدة من نوعها، سواء في بُعدها السياسي أو في البذخ الاحتفالي الذي جرت فيه أو بحرارة الاستقبال الذي خُصص لضيف مصر أو بمدتها الطويلة نسبيا: فخلال ستة عشر يوما، كنت واحدا من مجموعة الصحفيين الذين تابعوا جولة «نيكيتا خروتشوف» المنتصرة، مرفوقا بعدد من كبار المسؤولين الروس من ضمنهم «أندريه غروميكو» وزير الشؤون الخارجية و المارشال «أندريه غريتشكو» قائد قوات حلف وارسو.
كما كان الزعيم السوفياتي مرفوقا أيضا بزوجته، و بابنه «سيرج» و بنته «رادا» و صهره السيد «أدجوبي»،مانحا جولته هاته طابعا عائليا و جامعا إلى مسؤولياته السياسية، مُتع السياحة. و هكذا شهد حفلا في الأوبرا و شارك في رحلة بحرية بالبحر الأحمر و زار المتاحف و الأطلال التاريخية كما زار بطبيعة الحال أهرامات القاهرة و قبور الفراعنة في وادي الملوك بالأقصر. و نال ذلك ، بشكل ظاهر، إعجابه و انبهاره.
فلدى نزوله من الباخرة، بميناء الاسكندرية، استُقبل بطلقات مدفعية و بإطلاق بالونات هوائية في السماء، كما تم إنشاد النشيدين الوطنيين من طرف جوقة الجيش، قبل أن يُصافح الشخصيات التي جاءت لاستقباله و الترحيب به، و هُم كافة أعضاء الحكومة و مجموع النواب و رؤساء الهيآت الدبلوماسية، كما تم رمي أوراق الزهور و الحلويات لدى قطعه المسافة من الباخرة حتى القطار الذي سيُقله إلى القاهرة. و على طول خط السكة الرابط بين الاسكندرية و القاهرة، اصطف مئات الآلاف من المصريين، مُعظمهم من الفلاحين بلباسهم التقليدي و تلامذة المدارس بزيهم الموحد، كي يُصفقوا له بقوة. أما عبوره القاهرة، خاصة تحت أقواس النصر التي شُيدت على شرفه، و إلى جانب اللافتات التي تُشيد بالصداقة المصرية - السوفياتية، فقد كان حفلا لم يشهد له وادي النيل مثيلا من قبلُ.
كان لجمال عبد الناصر أسباب عديدة لتنظيم مثل هذا الاستقبال الحافل لنيكيتا خروتشوف. فقد طلب من ألمانيا و بريطانيا و الولايات المتحدة تباعا، أن يُشيدوا السد العالي لأسوان. و رغم قبوله للشروط الاقتصادية المُجحفة التي فرضتها عليه واشنطن، إلا أنه تلقى الصدمة والإهانة بسبب قرار وزارة الخارجية الأمريكية المُفاجئ بسحب عرضها المالي و ذلك بدعوى أن مصر لا تملك وسائل أداء التزاماتها المالية. و الواقع أن «دجون فوستر دالاس» وزير الخارجية الأمريكي قد رضخ لضغوط اللوبي الصهيوني و لوبي مُزارعي القطن في ولايات الجنوب الأمريكي الذين كانوا يخشون مُنافسة القطن المصري، و كذا لضغوط جزء من الكونغريس المُعادي ل»فاشية» عبد الناصر. و كان هذا الأخير يشتبه في أن واشنطن و لندن تسعيان إلى الإطاحة به على غرار الانقلاب الذي أطاح، قبل ثلاث سنوات، بمحمد مصدق في إيران.
في هذه الظروف، قرر الريس، يائسا، التوجه نحو موسكو بعد أن سيطر على مداخيل قناة السويس، فقدم له نيكيتا خروتشوف هدية القرن بموافقته على تقديم التمويل اللازم و التكنولوجيا و آلاف المهندسين و التقنيين الضروريين من أجل بناء «الهرم الكبير للأزمنة المُعاصرة».
كان إنجاز هذا المشروع حيويا على أكثر من صعيد: فقد كان من شأنه التحكم في صبيب مياه النيل، التي كان الجزء الكبير منها يضيع في مياه البحر لانعدام السدود، كما من شأنه أن يسقي حوالي 850 ألف هكتار، و مُضاعفة الإنتاج الكهرمائي خلال ثماني سنوات، و بالتالي تسريع عملية التصنيع في البلاد. و إجمالا فقد كان من شأن السد أن يُوفر عن مصر مواسم الفيضانات المُدمرة و الجفاف الماحق التي كانت تضربها دوريا، مع إتاحته الاستجابة لحاجيات ساكنة يزداد مستواها المعيشي هبوطا و تزداد معدلات توالدها ارتفاعا. كما اكتسى المشروع استعجالية قصوى مع تقلص معدل المساحة المزروعة لكل نسمة إلى النصف خلال أربعين عاما.
و بلغت الاحتفالات المنظمة بمناسبة تدشين السد العالي أوجها، خلال مراسيم تحويل مياه النيل لتغذية بُحيرة اصطناعية تبلغ حوالي 500 كيلومترا طولا. و شهد عدة مئات من الصحفيين القادمين من مختلف أنحاء العالم تدشين أكبر سد في إفريقيا. كان المشهد المعروض أمامنا في مستوى الحدث، التي لم تتردد الصحافة في وصفه بالتاريخي. فقد كانت هناك مساحة دائرية تضم 120 ألف شخص من بينهم عشرات الآلاف من العمال و المهندسين المصريين و بضعة آلاف من التقنيين السوفييت، الذين اشتغلوا ليل نهار لمدة إثنين و خمسين شهرا و أنهوا الشطر الأول من الأشغال سنة واحدة قبل الأجل المتوقع. كانت التصفيقات الموقعة ترتفع من الكتلة البشرية تحية لعبد الناصر، «أب مصر الحديثة» و لخروتشوف ، «الصديق الوفي للعرب»، الواقفين جنبا إلى جنب فوق صخرة ، مرفوقين بثلاثة رؤساء عرب و مُحاطين بمساعديهما الأكثر قربا. و قد أطلقا العنان لصيحة فرح هائلة حين، فجرا شحنة ديناميت، من خلال ضغطهما على زر قريب،حررت مدخل قناة التحويل.
و تمثلت قمة الاحتفالات في تفجير الشهب الصناعية و إطلاق بالونات بألوان العلمين المصري و السوفياتي، و تشكيل صورتين عملاقتين لعبد الناصر و خروتشوف من طرف لوحات حملها الآلاف من الشباب فيما أدى الجوق السمفوني للجيش النشيدين الوطنيين للبلدين. بدا الرئيس المصري بالغ التأثر بينما كان الزعيم السوفياتي بادي الانشراح.و في خطابه توجه هذا الأخير إلى «توفاريتش» (الرفيق) عبد الناصر قبل أن يوشحه بأعلى وسامين سوفياتيين: وسام لينين و وسام «بطل الاتحاد السوفياتي». و في رده على كلمة خروتشوف قال عبد الناصر أن»الشعب المصري لن ينسى أبدا أبدا الدعم الخالي من الغرض لنيكيتا، صديقنا و أخينا».
و لم تكن الخُطب التي سيلقيها الزعيم السوفياتي - و عددها 15 في المجموع - تُرضي مضيفيه المصريين دائما. إذ لم يكن المُمول يحرم نفسه من تقديم دروس في الماركسية التطبيقية، و الإشادة بالشيوعية («شبيبة العالم») في بلد يُعتبر فيه الحزب الشيوعي خارج القانون، و الاحتفاء بالإنجازات الاجتماعية للنظام السوفياتي مُخاطبا عشرات الآلاف من العمال في المُركبات الصناعية الأربع. دون أن يقوم في أي لحظة من اللحظات بالإشادة باشتراكية مصر الناصرية، مع الإشارة إلى أن هذه الأخيرة تسير في طريق «التنمية غير الرأسمالية». و قد نال الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي نجاحا كبيرا لدى الجماهير، التي كانت،على عكس المسؤولين المصريين في بعض الأحيان، تُصفق له طويلا جدا. بينما كان عبد الناصر الحاضر دائما، بابتسامته الجامدة، بل المتجهم أحيانا، يحتمي بالصمت، فيما يتكلف محمد حسنين هيكل، بالرد على أعمدة «الأهرام» : و في هذا السياق شن حملة عنيفة ضد الشيوعيين المصريين، الذين اتهمهم بالعمى السياسي. متجاهلا مع ذلك الإشارة إلى أن هؤلاء لا زالوا يرفضون دائما حل تنظيماتهم...
و دفع خروتشوف الاستفزاز إلى مداه حين تعرض للقومية «الشوفينية»، التي قارنها بالحركة الروسية في عهد القيصر: «آمل أن يتحول شعار الوحدة العربية على الشكل التالي:أيها العمال العرب، أيها العمال و الفلاحون و المثقفون، اتحدوا ضد المستغلين». أما بالنسبة للنزاع العربي-الإسرائيلي، فلم يتطرق له في خُطبه إلا مرة أو مرتين، مؤكدا على ضرورة حل كافة القضايا بالطرق السلمية، و داعيا إلى «سلام عادل و معقول»، و هي صيغة غامضة أثارت تصفيقات الجمهور الحاضر. و من جهته تنكب عبد الناصر خُطاه حين ساند اقتراح موسكو بجعل حوض البحر الأبيض المتوسط «منطقة منزوعة السلاح النووي»، متخوفا دون شك - في تلك الأثناء - من أن تتزود إسرائيل بالترسانة النووية.
انتهت الزيارة «التاريخية» للأمين العام للحزب السوفياتي، بنتائج كان القادة المصريون يحلمون بها دون الاعتقاد بتحققها. فقد أعلن خروتشوف تباعا، بأن موسكو ستمول الشطر الثاني و الأخير من سد أسوان و ستقدم قروضا طويلة الأمد لإنجاز التصميم الخماسي الثاني، الذي يخطط لتشييد حوالي عشرين صناعة ثقيلة. و كان عبد الناصر يشعر بالامتنان لكرم «أخيه نيكيتا».
أصبحت «الصداقة السوفياتية- المصرية» في القمة ، إلى درجة أنها بدأت تُقلق السفارات الغربية و تسببت في استقالة السفير الأمريكي بالقاهرة السيد «م. بادو» الذي أدى بذلك ثمن فشل سياسة حكومته. فبرفضها بيع السلاح لمصر ثم رفضها تمويل بناء السد العالي، مُعتقدة بأنها، بذلك، ستُزعزع النظام الناصري، دفعت الريس إلى أحضان القادة السوفيات. و أمام استغراب واشنطن، ازداد موقع هذا الأخير ثباتا. حيث أصبح ، على الصعيد الداخلي، يُعتبر «باني مصر الحديثة» كما عبر عن ذلك خروتشوف. و ازدادت حدة النقاش بين الشيوعيين - و هو نقاش كنتُ شاهدا عليه -مع اتخاذه توجها آخر. لم يعد الأمر يتعلق بمساندة أو عدم مساندة الناصرية الجديدة -التي تؤيدها الأغلبية - بل ما إذا كانوا يقبلون بالاندماج أم لا في الحزب الوحيد ، و هو التشكيلة القومية غير الماركسية (برفضه نظرية الصراع الطبقي). و تمكن مؤيدو حل الحزب من التغلب على مُعارضيهم. و كانت مبررات هؤلاء «الرجعيين» لا تخلو من إغراء: فهم يقولون أن عبد الناصر قد دخل بوضوح إلى الطريق المؤدي إلى الاشتراكية، و أدخل إصلاحات لم يكن حتى أكثر الشيوعيين طموحا يحلمون بها.كما أن الحوار الذي قامت به «الأهرام» مع الماركسيين يشهد على حسن نوايا الريس و يُفسح المجال أمام خطوات إضافية. ما الذي يقترحونه أفضل من ذلك؟ فعلى الشيوعيين أن يساهموا في إدخال الإصلاحات حيز التطبيق و تجذيرها و جعلها غير قابلة للتراجع. علاوة على هذا ، يضيف مؤيدو الحل، لم يكن أمامنا خيار آخر، فأي معارضة للنظام لن تكون غير مُجدية فقط بل ستكون خطيرة بالنظر لشعبية عبد الناصر و اتساع سلطاته.
و نجهل لحد الآن، ما إذا كان الكرملين، الذي يُقدر عبد الناصر كثيرا، قد نصح أم لا الشيوعيين المصريين بوأد تنظيماتهم و الانضمام للاتحاد الاشتراكي العربي، الذي تعتبره موسكو تشكيلة تقدمية قادرة على قيادة الاشتراكية. كان القادة الروس آنذاك يعتقدون بأن حركات العالم الثالث المعادية للامبريالية، من شأنها إقامة دول على غرار الديمقراطيات الشعبية، أو على الأقل دول مندمجة في المنظومة السوفياتية. ألا يُشكل اعتناق قومي مثل «فيديل كاسترو» للماركسية - اللينينية قبل قرار الحزب الشيوعي الكوبي الاصطفاف تحت قيادته، سابقة جديرة بالاهتمام؟
و مع ذلك، فإن الكرملين قد أخطأ تماما بتجاهله لعداء عبد الناصر العميق للشيوعية، و تجاهله لضعف الشيوعيين المصريين ، المنقسمين على عدة تنظيمات متنافسة. و قد أدى إقبار هذه التنظيمات حية، إلى عدم انبعاثها من الرماد بعد ذلك ، إلا في شكل مجموعات هامشية، ثم بعد ذلك بزمن، على شكل حزب يساري هو حزب التجمع.
و بعد الإفراج عن المعتقلين الشيوعيين، تم توظيفهم شرفيا في مناصب تتلاءم و مؤهلاتهم. و بذلك تم تعيين أفضل العناصر التي انضمت للاتحاد الاشتراكي العربي، في مناصب المسؤولية في الإعلام أو داخل الحزب الوحيد. و تم إيلاء إدارة مدرسة الأطر الحزبية إلى سعد الدين ابراهيم، و هو اقتصادي شيوعي معروف، بينما عُين أحمد فؤاد، و هو اقتصادي شيوعي آخر على رأس أربعة عشر شركة من ضمنها بنك مصر، أما «الضابط الأحمر»، خالد محيي الدين، و هو أحد صناع ثورة 1952 الناصرية، فقد حصل على أموال مهمة من أجل إصدار صحيفة يومية يسارية.
لكن عبد الناصر، لم يترك أي لُبس أو غُموض يحوم حول طبيعة هذا التعاون. فأمام مجموعة من الشيوعيين السابقين، المتعاونين في المجلة الماركسية «الطليعة»، الذين استقبلوه في مقر صحيفة «الأهرام»، توجه لهم بتحذير قاس: «سَجلوا :لن أسمَحَ أبدا لأي كان أن يقف إلى يساري.» و أضاف قائلا: «...أو يزعم بأنه جزء من السلطة...». و في نفس الفترة، صرح لصحفي أمريكي بالقول : «لن أدور في فلك أي كان و لن أكون لعبة أي كان...فمصر حريصة على الحفاظ على استقلاليتها عن كل الأيديولوجيات الأجنبية، سواء كانت ماركسية، فاشية، عنصرية، كولونيالية، أمبريالية أو ملحدة، و هي جميعها من أصل أوربي»
و يبدو أن الريس قد نسي تحذير نيكيتا خروتشوف الذي ذكره ،قبل ست سنوات- في حوار مع صحفي هندي -بأن هتلر و موسوليني كانا قد حاولا دون جدوى، قبله تصفية الشيوعيين «انطلاقا من مواقف قومية شوفينية». و برجوعنا إلى «دائرة المعارف السوفياتية الكبرى « نقدر بشكل أفضل التطور الحاصل في موقف الكرملين،حيث نجدها تتحدث سنة 1952 عن الثورة الناصرية كالتالي : «في ليلة 23 يوليوز 1952 ، قامت مجموعة من الضباط الرجعيين بقيادة الجنرال نجيب، و باتصال وثيق مع الولايات المتحدة، بالاستيلاء على السلطة». كما أن الولايات المتحدة، غيرت خلال بضع سنوات، رأيها في الريس. فبعد أن كانت تعتبره في البداية «مواليا للغرب» لم يعد في نظر واشنطن سوى بيدقا من بيادق موسكو. هكذا تبدلت رؤيتا القوتين العظميين، لكن مصر ستبقى ، في حالة كما في الأخرى، رهانا رئيسيا -و ضحية في النهاية - للحرب الباردة، كما ستُظهر ذلك بوضوح السنوات القادمة.
الحلقة القادمة:
مصر للمصريين (1)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.