يعتبر الباحث في الثقافة الأمازيغية، الدكتور عمر أمرير، اختيار الكتابة عن السوسيين في الدارالبيضاء، ليس "نزعة" تحصر العصامية في المنحدرين منه، وتنفيها عن غيرهم من إخوانهم في كل ربوع المغرب. قصة هذا الكتاب كما يرويها الباحث أمرير، هي تحفيز لذاكرته في الدارالبيضاء على امتداد حوالي 40 سنة من مسار حياته فيها. منذ زمن طفولته، حيث سافر به والده – رحمه الله- من سوس، للدراسة فيها،عندما بدأ والده ممارسة التجارة مع شقيقه. منذ ذلك الزمن وإلى اليوم، سيجد الدكتور عمر أمرير في موضوع الكتابة أن من بين ما سجله شريط ذكرياته، أسماء لسوسيين مسلمين ويهود، انطلقوا من الصفر في ميادينهم، معتمدين على إمكانياتهم الذاتية، ومواهبهم الشخصية. وبلغوا أوج تفوقهم في حياتهم بتجارب إنسانية عميقة. اشتهر هذا السوسي بين التجار الفاسيين بصدق المعاملة، وبالإخلاص كما عرف ببراعته في تدبير السير المالي لمتاجره، بدءا بتنمية رأس المال، إلى الإحاطة الدقيقة بأسباب وأوجه جميع أصناف النفقات، وكذا مردوديتها، وتأثيرها على العمل سلبا أو إيجابا، بالإضافة إلى ما عرف به من حدس تجاري يعرف به ما يروج في ذهن الزبون ويبدع بمهارة فائقة في أسلوب إقناعه. سينتقل بوفتاس من مستوى متاجر بيع الملابس التقليدية التي صار يملكها متفرقة في درب غلف، إلى مستوى ولوج دائرة التجار الكبار في الدارالبيضاء، بمركز رواج تلك التجارة في حي "درب كناوة". نعم، سيدخل بوبكر بوفتاس "درب كناوة" الذي كان مركز التجار الكبار في تجارة الملابس المغربية بمحض الصدفة، في زمن كان فيه ذلك المجال التجاري في الدارالبيضاء مقتصرا على الأسر الفاسية، وكذلك الأسر اليهودية، ولا وجود فيه لأية أسرة سوسية قبل أسرة بوفتاس. يعود السبب إلى ما حدث في يوم لما اضطر الحاج عبد العزيز برادة للتغيب عن متجره في درب كناوة، مما فرض عليه التفكير في اختيار شخص ثقة ومنهي يتولى النيابة عنه في شيء واحد: "الجلوس مكانه أمام الصندوق لضبط المداخيل، وكل الحسابات. أما عمليات البيع والشراء فهناك مساعده الخبير في شؤونها. لم يستغرق تفكير الحاج برادة كثيرا، لأنه سرعان ما تذكر خصال زبونه الشاب السوسي بوبكر بوفتاس. وما عرف به من ثقة وإخلاص، مع المهارة الموهوبة، والشخصية التجارية المهيبة. ذهب إليه ملتمسا منه أن يقوم مقامه خلال غيابه الاضطراري عن متجره يوما واحدا. ورغم ذلك، ألح عليه الحاج برادة إلحاحا احترمه الرجل، فتسلم منه المفاتيح، وجلس منذ الضحى في مكان صاحب المحل الذي ذهب إلى حيث يستعجل وصوله، مطمئنا على متجره. انقضى النصف الأول من النهار دون أن يعود الحاج برادة لمتجره، لذلك اتفق بوبكر مع الشخص المكلف بالبيع على ضرورة إغلاق المحل، كما هي العادة ظهرا، إلى ما بعد تناول الغذاء، ريثما يعود مالك المحل، وسلمه بوبكر مدخول النهار والمفاتيح. أذن المؤذن لصلاة المغرب، دون عودة الغائب، وقد حان الوقت المعتاد لإغلاق المتجر. فما العمل؟ في دوامة حيرة بوبكر، سيرن هاتف المتجر – وما أقل الهاتف يومئذ- فيرفع بوفتاس السماعة ليفاجأ بصوت الحاج عبد العزيز برادة آت من بعيد وهو يسأله عن أحواله؟، وكيف وجد أجواء أكبر مركز لتجارة الأثواب والملابس وهل ربط علاقات جديدة مع الشخصيات التجارية المرموقة هناك؟ اختصر بوبكر الجواب بسؤال: هل سيصل بعد حين ليسلمه مفتاح المتجر، ومدخول الصندوق، لأن شركاءه ينتظرونه بدورهم في متجره؟ أجابه الحاج برادة بسؤال عن مجموع مقدار مدخول ذلك النهار؟ حدد له بوفتاس المقدار المالي، ولما سمع الحاج برادة المقدار، عبر له عن فرحه بذلك المبلغ وشكره على إخلاصه. سينهي الحاج برادة المكالمة الهاتفية بأن أسر إلى الشاب بوفتاس بكونه ليس في الدارالبيضاء، لأن هناك ظروفا قاهرة أرغمته على السفر إلى مدينة فاس التي يحدثه منها الآن. وأردف قائلا: إنه مضطر للبقاء فيها بضعة أيام، يرجوه الاستمرار خلالها في مهمته، مقابل أجرة مرتفعة جدا عن كل يوم. ثم أوصاه بأن يكتم خبر سفره إلى مدينة فاس. بنهاية تلك المكالمة سيستنتج بوفتاس أن صديقه لم يغرر به، بل يثق فيه، ويأمل بحق الصداقة أن يقدر الأمانة التي لم يتركها له بين يديه، إلا لأنه وجد نفسه في ظروف قاهرة لن يتفهمها إلا من يبادله التقدير والاحترام، مثل بوبكر بوفتاس. هكذا وجد صاحبنا نفسه أمام الأمر الواقع. فاضطر لترك متاجره الشخصية بدرب غلف لمساعديه كي يتدبروا شأن تسييرها حتى يمكنه التفرغ لأداء واجب الصداقة تجاه صديقه برادة الذي لا يشك على الإطلاق في كونه يعيش ظروفا قاسية. لم يسأل بوفتاس صديقه عن سبب غيابه، فليس من الضروري أن يحرجه بالسؤال. فهل من جواب أعمق دلالة من اضطرار الرجل للتغيب عن مصدر رزقه؟ وهل من جواب أقوى كناية من حرص الغائب على كتمان سر سفره؟ بل هل هناك أصدق برهان ملموس من الوعد بتعويض مادي سخي؟ قدر بوفتاس ظروف الرجل، وثمن الثقة التي وضعها فيه. لذلك صبر واستمر في النيابة عن صديقه الذي اطمأن على متجره، وصار يكتفي بالاتصال الهاتفي من فاس قبيل وقت لإغلاق المتجر في كل نهاية نهار.