بعدما ولدت بعملية قيصرية، تسير حكومة سعد الدين العثماني نحو تحطيم الأرقام التاريخية في الاضطراب والتخبط والتعديلات المتوالية بفعل إعفاء الوزراء. وبعيدا عن أي توسّل بالتفسيرات الغيبية والخرافية التي قد تخطر على البال لتفسير ذلك، يبدو «زواج الدية» أقرب إلى محاكاة قصتها. يتعلّق الأمر بممارسة تسود في بعض القبائل العربية، وتستمر حاليا في بعضها، تقوم على تزويج فتاة من عشيرة مرتكب الجرم لرجل من عشيرة الأعداء، مقابلا وتعويضا عن الدية أو القصاص، ويسمون ذلك ب«زواج الدية». هذه المرأة التي تُزوج بهذه الطريقة القاسية والمهينة، تقضي بقية عمرها تتلاطمها الضربات وتحاصرها النكبات، حيث يعاملها الجميع على أنها منذورة للشقاء، ليس من باب التسليم بقدرها المشؤوم، بل لأن الجميع، بمن فيهم عشيرتها، يعتبرون أنها موجودة لتحمّل النكبات، ووضعها يحتّم عليها تجسيد المعاناة والمكابدة التي تصبح مرادفا للعدالة والقصاص. أخطر ما في هذه القصة أن «عروس الدية» لا ظهير ولا ولي لها، وحتى عشيرتها الأقربين يتبرؤون منها، ويعتبرونها في عداد الموتى، فهي تعيش فقط لكي لا يُقتل أحدهم. المغرب، بدوره، لم يسلم من هذه الممارسة القبلية العتيقة، لكنه يطلق عليها اسما دارجا، يصف المرأة التي فرض عليها زواج الدية ب«المعطية فالروح». فبعد قرابة سنتين من الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عرفها المغرب، تستمر فصول مسلسل عنوانه حكومة لا تقوم من حفرة إلا لتقع في أخرى. وبدل أن يشكل إعلان نتائج الانتخابات، الذي جرى منتصف ليلة 7-8 أكتوبر 2016، نهاية فترة الغموض والضبابية التي تسبق الاستحقاقات الانتخابية في جميع أنحاء العالم، دخل المغرب في متاهة طويلة، أبرز مظاهرها هذه الحكومة المرقعة. أكثر من ستة أشهر التي تلت تلك الانتخابات، ميّزها البلوكاج الشهير الذي حال دون تشكيل أغلبية برلمانية وتعيين حكومة جديدة، والذي لن ينهيه إلا الإعفاء الملكي لرئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، وتعيين سعد الدين العثماني مكانه. موازاة مع ذلك البلوكاج، كان الحراك الشعبي، الذي انطلق في منطقة الريف عقب الوفاة المأساوية للراحل محسن فكري، يتأجج على نار هادئة في غياب أي مبادرة رسمية للتجاوب معه، باستثناء مسارعة الأغلبية الحكومية، التي ولدت بعد عملية قيصرية، إلى تأجيج الغضب الشعبي ببيانها الشهير حول علاقة الاحتجاج بالانفصال. ورغم تأليف أغلبيتها، بقيت هذه الحكومة رهينة وضع اجتماعي وسياسي مأزوم، فاقمه عجز متزايد في المشروعية السياسية، وضعف صورة الحكومة أمام الرأي العام. الحسم الأمني للحراك الشعبي الذي عرفته منطقة الريف، ونجاحه في كتم صوت الشارع بعد اعتقال المئات من النشطاء، لم يشكل فرصة أمام الحكومة، كما كان البعض، بمن فيهم بعض مكوناتها، يأملون، لتحقيق انطلاقة جديدة وتعبئة جزء من الرأي العام عبر إجراءات أو حتى وعود إصلاحية، بل كان وبالا عليها، إذ لم يكد ملف حراك الريف «يغلق» بشكل مؤسساتي من خلال تقرير المجلس الأعلى للحسابات، حتى تحوّل تقرير هذا الأخير إلى سبب لإعفاء أربعة من وزراء حكومة العثماني، ما خلّف ثقبا سياسيا جرّته معها طيلة أكثر من ثلاثة أشهر. كانت القراءات المبنية على فتات المعطيات المتوفرة تتقاطع في تفسير الانتظارية التي دخلها المغرب، بانتظار مؤتمري حزبي العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية. انعقد مؤتمر المصباح في دجنبر الماضي، وأزيح بنكيران من الواجهة السياسية بإبعاده عن قيادة الحزب، ليلتحق بذلك بصديقه نبيل بنعبد لله الذي أُخرج من الحكومة بسبب مشاريع الحسيمة-منارة المتوسط. تطابقت «القراءة السياسية» لحزب الكتاب مع الدعوة المولوية التي قال قادته إنها تريد بقاءه في الحكومة، واحتفظ بحقيبتي الإسكان والصحة، واستقبل الملك رسميا نبيل بنعبد لله بعد تجديد ولايته على رأس الحزب، لكن ذلك كله لم ينهِ متاعب الحكومة. بعد شهور قليلة، جاء إعفاء وزير الاقتصاد والمالية، محمد بوسعيد، لأسباب غامضة، وتلاه بعد أيام قليلة إخراج المرأة، التي كانت تمثل «شعرة معاوية» بين حزب التقدم والاشتراكية والحكومة خلال فترة إعفاء وزيريه في الصحة والإسكان، بطريقة تغيير أقفال البيت المراد إرغام مستأجره على إفراغه. وكشف بلاغ الديوان الملكي أن خطوة حذف كتابة الدولة في الماء من الحكومة جاءت بطلب من رئيس الحكومة، ما يعني إقدام العثماني على قطع حبل الحلف الاستراتيجي مع حزب الكتاب، والذي ورثه عن مرحلة بنكيران. الأنباء الآتية الآن من داخل حزب علي يعتة تقول باستعداد بعض الأصوات للمطالبة بالانسحاب من الأغلبية الحكومية، بمبرر خيانة إسلاميي المصباح العهد الذي يجمع الحزبين. طيلة هذه الفترة لم تكن حكومة العثماني يوما في حاجة إلى معارضة، بل توالت عليها نائبات الدهر وعوامل التحطيم الذاتي، وأصبح وزراؤها يتحسسون رؤوسهم صباح مساء، وما إن هدأ الحراك والزلزال حتى جاءت المقاطعة وأحكام معتقلي الريف… لتظل حكومة العثماني كعروس الدية.