الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا يعيشان على وقع الأزمة العميقة التي تعيشها السعودية فقط، وإنما تعيش مرحلة مفصلية من تاريخها في أفق إعادة تشكيل المنطقة عبر إقصاء الدين من الشأن العام وتكريس الدولة المدنية وسمو البعد الاقتصادي على باقي أبعاد الحياة العامة، إذ لن يتوقف الأمر عند التفكيك القسري لبنية “الدولة” في المملكة العربية السعودية وفق شعار: “خذوا مكة واتركوا البترول”، كما قلنا في المقال السابق، وإنما سيفتح الباب أمام سلسلة تطورات أخرى نذكر منها اثنين على الأقل في هذا المقال – أولا: بداية العهد الفارسي الجديد (ولا أقول العهد الشيعي): إن إيران تشكل مأزقا دوليا حقيقيا على المستويين السياسي والاستراتيجي، ومصدر إزعاج للقوى الكبرى بسبب مرجعيتها “الدينية”، فبينما تخشى كل من “إسرائيل” والولايات المتحدة من تضخم نفوذ النظام الشيعي في المنطقة بما يهدد أمن “إسرائيل” والتوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط، تجد الدول المساندة لإيران مثل روسيا والصين وتركيا، نفسها في موقف حرج أمام المنتظم العالمي لأنها تظهر بمظهر القوى الداعمة لمبدأ الدولة الدينية، وتتحمل، بالتالي، جزءا من مسؤولية التطرف والإرهاب اللذين يتهم بهما النظام الإيراني وطموحاته التوسعية. وبناء على ذلك، فإن الحل السياسي الوحيد والأنسب، الذي سيجنب العالم مواجهة مباشرة ومدمرة بين كلا من القوى الداعمة لإيران والقوى المناوئة لها، هو إسقاط نظام ولاية الفقيه وصعود القومية الفارسية من جديد، في سياق العودة للدولة المدنية في إيران، وذلك بواسطة تحالف أمريكي إسرائيلي فارسي، وبتواطؤ غير معلن من روسيا وتركيا وحياد صيني. وعلى هذا الأساس، فإن انهيار النظام السياسي السعودي وتفكيك بنيته الجغرافية لن يشكل نهاية للأحداث في المنطقة، بل سيتلوه في ظرف زمني قصير انهيار نظام المعممين في إيران من خلال نقل الحرب الأهلية السعودية نحو إيران عبر العراق، كما ستمتد تلك الحرب لدول الجوار السعودي الأخرى . – ثانيا: نتيجة لكل ما سبق، فسنشهد انتهاء النسخة الحالية من التدين السني، ونعني هنا بالتدين السني، تلك المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي كثيرا ما ابتعدت عن روح الدين حفاظا على بنية الحكم السائدة وتكريسا للوضع القائم، حتى لو تطلب الأمر تبني تأويلات خاطئة للنصوص أو رفع بعض الأحاديث الموضوعة والضعيفة إلى مستوى تداول الأحاديث الصحيحة، أي منظومة الولاء للسوط (وليس الصوت) الأعلى . ولا أدل على ذلك من الطريقة والتبريرات التي تمت بها تصفية المعارض السعودي خاشقجي، رغما عن الأحكام الشرعية التي يفترض في المملكة العربية السعودية أن تكون حارسا لها باعتبارها لحد الآن محتضنة لمكة والمدينة، ولذلك، فإنه في حالة نجاح سيناريو تقسيم السعودية ستنتهي حتما رعاية وهيمنة المملكة على الأماكن المقدسة وستنتهي معها النسخة الحالية من التدين السني، تلك النسخة التي شكلت الأساس والغطاء الشرعي للبنية السياسية للأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط، والتي تميزت على الأقل على مدى قرن من الزمن بالعنف السياسي والغباء المعرفي والعنف السياسي، الذي اختلفت تأصيلاته بين مكة والأزهر ولاهور ومقديشيو ومندناو وكابول وغيرها، ولكنه ضرب كالوباء عقل وقلب وحاضر ومستقبل كل بلدان المنطقة من السعودية لمصر للعراق لسوريا لباكستان وأفغانستان، وحتى الفلبين وأندونيسيا أو الأردن ولبنان ولجزائر فالمغرب وتونس… أما الغباء المعرفي، فقد تمثل في إنتاج هذا الكم الهائل من الفتاوى المتخلفة، والتي أضاعت على المنطقة فرصة عظيمة للتفاعل مع العصر وركوب قطار التقدم والتنمية، وكرست فهما سطحيا وشكليا للإسلام، ولا بد هنا من التمييز بين التدين السني، كما حددناه، والإسلام السني، الذي يعتبر عكس ذلك، مجموعة اجتهادات فقهية الصادقة والموضوعية بغض النظر عن أي اصطفاف مذهبي. إن انتهاء نظام المعممين وأفول النسخة الحالية من التدين السني، سيشكلان رجة هائلة في عقل ونفسية شعوب المنطقة ويدخلانها في مرحلة فراغ قاتلة ومتاهة فكرية خطيرة، نتيجة ارتقاء منسوب الشك العقدي لدى السواد الأعظم من الناس إلى مستويات غير مسبوقة، وهذا الوضع سيفتح الباب أمام صراعات طاحنة، وقودها الدين والهوية واختلاط المذاهب والمناقب، تجعل شعوب المنطقة أمام خيارين: إما قيام الدولة المدنية على أساس علماني، أو فقدان السيطرة على مقدرات بلدان المنطقة لفائدة القوى العظمى والخروج من البوابة الخلفية للتاريخ.