لعل متتبع الاحتجاجات الفئوية التي عرفها المغرب هذه السنة، وخصوصا احتجاجات الأساتذة «المتعاقدين» وطلبة كليات الطب، يلاحظ أن وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي، التي دبّرت هذه الاحتجاجات، لجأت، في الحالتين، إلى تسييسها، من خلال تحميل المسؤولية عن الاحتجاج لقوى المعارضة، وأساسا جماعة العدل والإحسان. ما يزكي هذا الطرح قرار الوزارة الأخير توقيف 4 أساتذة عن العمل، ينتمون إلى كليات الطب في مراكش وأكادير والدار البيضاء، بحجة «الإخلال بالالتزامات المهنية»، فيما يؤكد الواقع أن القرار سياسي صرف، ويبدو أنه سيؤدي إلى تعميق المشكل بدل حلّه، كما يشير إلى ذلك موقف أساتذة كلية الطب في مراكش الذين قرروا، من جهتهم، التوقف عن العمل إلى حين تراجع الوزارة عن قرارها. لماذا يلجأ الفاعل الحكومي إلى تسييس القضايا؟ يلجأ الفاعل إلى التسييس من أجل تحقيق أمرين؛ أولا، تعبئة الدعم والتجنيد السياسي للجمهور، لإقناعه بأن الطرف الخصم خطير، بل يكاد يكون تهديدا. وثانيا، شرعنة القرارات والتدابير والإجراءات الاستثنائية التي قد يلجأ إليها في حق هذا الخصم. في هذه العملية يعتبر إقناع الجمهور شرطا جوهريا لإعطاء شرعية للقرارات المتخذة. لكن، من خلال تحليل ردود الفعل تجاه الكيفية التي تدبر بها وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي ملف طلبة كلية الطب، يظهر أن هناك رفضا واعتراضا لدى المواطنين على منهجية الوزارة في تدبير المشكل، بغض النظر عن مدى شرعية مطالب الطلبة، وأقوى مؤشر في هذا الاتجاه هو حجم مقاطعة الامتحانات، والذي يؤكد أن الحجج التي يقدمها الطلبة تلقى تأييدا واسعا في صفوفهم، وفي صفوف عائلاتهم أيضا. وهكذا، بدل أن تجادل الوزارة في حجج الطلبة وتنسفها، إن استطاعت، في ساحة النقاش العمومي، الأمر الذي يبدو أنها فشلت فيه، انتقلت في تدبير الأزمة إلى مستوى أعلى، أي استهداف أساتذة كليات الطب المؤيدين للطلبة في تحركاتهم، ويبدو جليا أن الهدف من وراء قرارات الوزارة هو تسييس الموضوع، أي نقله من مجال السياسة الدنيا إلى مجال السياسة العليا، وربما أمننته، خصوصا أن السلطة تتعامل مع جماعة العدل والإحسان كقضية أمنية، أي باعتبارها تهديدا. إذا كان الأمر كذلك، فعلى الوزارة المعنية أن تدرك أن منحى التسييس مُغرٍ وجذاب، لأنه يمنحها سلطة أكبر في التصرف، بأن تشيطن الخصم الذي تتصور أنه المحرك الرئيس لاحتجاجات طلبة كليات الطب، وقد يدفعها ذلك إلى استصدار قرارات استثنائية غير شرعية، لكن يجب أن تدرك أيضا أن هذا النهج سلطوي، ليس لأنه يسمح بتدخل جهات أخرى لا تنتمي إلى قطاع التربية والتعليم (قد يكون هذا حصل بالفعل بعد قرارات التوقيف)، ولكن لأن تداعياته تكون لها كلفة أكبر، اجتماعيا وسياسيا ونفسيا. على الوزارة وباقي الفاعلين أن ينتبهوا إلى قضية لافتة للنظر في سياق هذه الاحتجاجات، سواء في ما يتعلق بالأساتذة أو طلبة الطب، وتتمثل في نوع من الراديكالية في المطالب والمواقف، فالأساتذة يرفضون التعاقد أسلوبا في التوظيف في حد ذاته، فيما يرفض طلبة كليات الطب أن يشاركهم زملاؤهم في الكليات الخاصة في امتحان التخصص بعد سبع سنوات من الدراسة، وفي كلتا الحالتين هناك راديكالية في المواقف، وكأننا أمام جيل جديد من الشباب لا يؤمن بالحلول الوسط، فيما الحقيقة أنه جيل فقد الثقة في المؤسسات، وهذا أخطر ما يمكن أن يصل إليه أي بلد. ومن أراد أن يطلع على ذلك، فلينظر إلى الجزائر من حوله، وكيف أن الحراك الشعبي يطالب بتنحية الجميع (يتنحاو كاع)، ولا يثق في أحد. إن خطورة تسييس القضايا الاجتماعية تكمن أساسا في أنه يؤدي إلى فقدان الثقة في السياسة والمؤسسات في النهاية. تأملوا جيدا هذه الوضعية؛ يتظاهر طلاب الطب من أجل تحقيق بعض المطالب، فتتهم الوزارة الوصية جماعة سياسية معارضة، طبعا قد يصدق الجمهور التهمة في المرتين الأولى والثانية، لكنه لن يصدقها دائما. ما يقع اليوم عندنا، وفي ما حولنا، يؤكد أن الجمهور ملّ تصديق السلطة، لذلك، تبدو مطالبه ومواقفه حادة، وحتى راديكالية، كل ذلك نتيجة التسييس المفرط، فتجنبوه.