أول ما لفت انتباهي في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش، هو استعماله تعبير «البيعة المتبادلة»، حين قال الملك: «وإننا نحمده سبحانه على ما مَنَّ علينا به من نعمة الوحدة والتلاحم، والبيعة المتبادلة بين العرش والشعب». فهذا التعبير غير مسبوق وُروده في أدبيات البيعات الإسلامية والمغربية، وضمنها بيعة الملك محمد السادس التي جاء فيها: «إن أصحاب السمو الأمراء وعلماء الأمة وكبار رجالات الدولة ونواب الأمة ومستشاريها ورؤساء الأحزاب السياسية وكبار ضباط القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية.. يقدمون بيعتهم الشرعية لصاحب الجلالة والمهابة أمير المؤمنين سيدنا محمد بن الحسن بن محمد بن يوسف بن الحسن»، وهو ما يؤكد أن «أهل الحل والعقد» بايعوا الملك، دون أي إشارة، أو اشتراط في نص البيعة، على أن الملك يبايعهم بدوره، أو يبايع، من خلالهم، الشعب. لكن الخطاب ال20 جاء متضمنا عبارة «البيعة المتبادلة» التي من جملة ما قد يستفاد منها، أنه مثلما يختار الشعب ملكه ويبايعه، يختار الملك شعبه ويبايعه أيضا، وهذا غير ممكن منطقيا وغير مؤسس شرعيا وغير مسنود قانونيا. قد يقول قائل إن البيعة لا تخلو من ميثاق متبادل بين الملك وشعبه، ومن ذلك خدمة الملك للشعب، مقابل «طاعة وولاء وإخلاص الشعب للملك في السر والعلانية والمنشط والمكره». لكن الميثاق شيء والبيعة شيء آخر. الميثاق يمكن أن يختل بند من بنوده أو يسقط شرط من شروطه دون أن تسقط البيعة بالضرورة. لكن، في حالة البيعة فالعكس هو الصحيح، لأنها مثلما تُعقد يمكن أن تفسخ، وهذا حدث مع السلطان مولاي عبد العزيز. وبفسخها يصبح من بايع ومن بويع في حِلٍّ من الميثاق القائم بينهما. لذلك، فإن ضبط المصطلحات والمفاهيم الشرعية والسلطانية من لدن صائغي الخطب الملكية هو أمر من الأهمية بمكان، خصوصا أن الخطاب العشرين جاء مسبوقا بتصريح للمستشار الملكي، عبد اللطيف المنوني، لوكالة الأنباء الفرنسية، قال فيه إن المغرب «على طريق ملكية برلمانية». فهل نفهم من تعبير «البيعة المتبادلة» أن الملك يُحضر مرحلة يبادل فيها شعبه بيعة ببيعة، ويسلمه الحكم، عبر حكومة مسؤولة مسؤولية كاملة، وخاضعة للمراقبة والمحاسبة الشعبية، تحت سيادة رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، كما هو محدد للملك في الفصل 42 من الدستور؟ إلى حدود الخطاب الأخير، لا يبدو ذلك واضحا، إلا من هذه الإشارة («البيعة المتبادلة») التي أعترف بأنني حمَّلتها قراءة مفرطة في ليبراليتها وتفاؤلها، سندي في ذلك تصريح المستشار المنوني الذي أعرف أنه لا يمكن أن يقول كلاما بهذا الثقل والحساسية، إن لم يكن مأذونا له من لدن الملك، خصوصا أن حديث المنوني كان حصريا للصحافة الفرنسية، وجاء في أعقاب النبرة النقدية القوية التي طبعت متابعة هذه الصحافة لذكرى مرور 20 سنة على حكم الملك محمد السادس. لذلك، فإذا استثنينا ما سلف، فإن الخطاب الملكي الأخير واصل قص أجنحة الحكومة والتقليل من كفاءة أعضائها («تتوفر على بعض الكفاءات»)، مع تحديد سقف زمني لتعديلها، أو من خلال تقليص مجالات اشتغالها بإحداث لجنة خاصة بالنموذج التنموي، ستُنصَّب في الدخول المقبل. إن السؤال الذي يطرح نفسه، ونحن نرى الملك يطالب رئيس الحكومة بالتعجيل بتعديل يضمن وصول «كفاءات وطنية عالية المستوى» إلى المسؤوليات الإدارية والحكومية هو: هل العثماني هو الذي اختار وزراء دون المستوى في مناصب حساسة مثل وزير «الموتوجين» (طبعا هو المسؤول دستوريا). وهل العثماني هو الذي فرض حزبا لم يخجل أحد وزرائه من أن يبرر دخوله إلى الحكومة بالقول: «إن حزبنا لو بقي خارج الحكومة لأصبح مجرد نادٍ سياسي صغير»؟ بل، هل جاء العثماني بنفسه إلى رئاسة الحكومة؟ ما قاله الملك عن ضعف الحكومة، بالأساس، صحيح جدا. لكن الحكومة لا تحتاج، فقط، إلى تعديل حكومي للتخلص من الأذرع المكسورة، بل تحتاج إلى تطبيق الدستور الذي ربط المسؤولية بالمحاسبة، فيما نحن مازلنا نتحدث عن الأحزاب الموالية للإدارة التي تعرقل تشكيل الحكومات، ولا تكتفي بإخراجها على المقاس، بل يخرج وزراء فيها لاتهام رئيس الحكومة وحزبه بتهم من الخطورة بما يستوجب فتح تحقيقات قضائية فيها، فيما يقول لنا الدستور إن رئيس الحكومة هو الذي يرأس الإدارة! ختاما، أتمنى أن يكون تعبير «البيعة المتبادلة» مفهوما يقصد منه الانتقال إلى مرحلة تجسد فعلا ثورة الملك والشعب التي أضاعت مضمونها على حلبة صراعات الحسن الثاني ومكونات الحركة الوطنية، وأن نرى حكومة بقوة واستقلالية وكفاءة وإبداعية حكومة عبد لله إبراهيم، فذلك هو السبيل الوحيد لإيقاف بلقنة وتمييع المشهد السياسي، ولإعطاء المدلول الحقيقي للعملية السياسية الديمقراطية، بما تعنيه من حكم الشعب، وسيادة الملك. كما أتمنى أن تتمكن “شطابة” الملك –أساسا- من كنس العبث بالحياة السياسية وصنع زعامات فقاعية وإنزالها على رأس الأحزاب، لأن استمرار ذلك يكرس انطباعا بأن كل دعوة إلى تجويد أو تخليق الإدارة والحكومة، ولو كانت صادرة عن الملك، هي إمعان في قتل السياسة.