من المتعارف عليه دوليا أن عمل السفارة يهدف إلى حمايةالمواطنين المقيمين في الدول التي توجد فيها التمثيليةالدبلوماسية لبلدهم، هل هذا ما لمسته في عمل السفارة فيالجزائر؟ الأمر يتعلق بشخصية السفير، المعبر عنه برئيس البعثة الديبلوماسية،وليس بوجود نصوص قوانين فقط. فمثلا كان المغاربة الذينتجنسوا بالجنسية الجزائرية يُعاملون معاملة سيئة حين يراجعونقنصليات بلدهم لاستخراج وثائقهم المغربية، لأن بعض القناصلة كانيتصرف بعاطفة وطنية ضيّقة وليس بالقانون الذي بين يديه. أما بعدتعيين السفير عبد القادر بنسليمان فكان يوضح ويؤكد للحاصلينعلى الجنسية الجزائرية أنه بإمكانهم الحصول على أي وثيقة مغربية،بما في ذلك جواز السفر المغربي؛ لأن المغرب يسمح بازدواجيةجنسية رعاياه بنص القانون “الجنسية المغربية تُمنح ولا تسقط“. عملتْ السفارة، من جانب آخر، على إعادة الحيوية للعلاقات المغربيةالجزائرية التي تجمدت طيلة 12 سنة، داخل أجواء يسيطر عليهاالعداء الإعلامي، الذي كانت تغذيه الجهات المستفيدة من الصيد فيمياه الوطنية الملوثة. ما أتذكره أن فترة بنسليمان كانت السفارة فيهابمثابة مركز أحياء لخلايا العمل الإيجابي بين المغرب والجزائر. ولذلكنظر كثير من عقلاء وحكماء المنطقة إلى مغادرته الجزائر في ربيع91، ليتولى وزارة السياحة في المغرب، بأنه كان لصالح أصحاب نزعةسياسة الانكفاء على الذات، وممارسة ثقافة التباغض الوطني، أولئكالذين ألفوا الصيد في المستنقعات السياسية، قصد الوصول فيأقصر وقت إلى محطة فرض تأشيرة الدخول إلى المغرب على الرعاياالجزائريين بتاريخ 24 غشت 1994، وردة فعل الجزائر بالمثل، بلأضافت إغلاق الحدود البرية مع المغرب، والمستمر إلى اليوم (صيف2019). الأمر الذي لم يحدث حتى في أوج المواجهات العسكريةالسابقة بين البلدين. مما قد يشير إلى الفجر الكاذب لانبعاثعلاقات إيجابية بين العاصمتين. – لكن لا يمكن فصل ما وقع في غشت 1994 عن مسار كاملمن الخصومة والعداء يعود إلى بداية استقلال البلدين؟ صحيح توجد مشاكل متراكمة بين البلدين، يعود بعضها إلى ما قبلاستقلال القطرين عن فرنسا، منها: استيلاء المغرب على أراضي كانت في ملكية جزائريين فرنسيينبالطريقة نفسها التي تم بها استرجاع المغرب لملكية أراضيه الفلاحيةمن الفرنسيين. قضية المواقع التي كان ينشط فيها الجزائريون في المغرب، أثناءحربهم التحريرية ضد فرنسا، والتي يريد الجزائريون الاحتفاظ بهاكتراث تاريخي لتلك الحرب. سوء التفاهم الذي حدث بين مؤسسي ومكونات مكتب المغربالعربي، ثم لجنة تحرير المغرب العربي بالقاهرة، حول موضوعاستقلال المغرب وتونس، وترك الجزائر وحدها أمام البطش الفرنسي. موضوع الحدود الموروثة عن الاستعمار، بما في ذلك الساقيةالحمراء ووادي الذهب. طرد مغاربة الجزائر في شتاء 1975، بعد أن جردوا من ممتلكاتهم،عقب المسيرة الخضراء. ونلاحظ أن القضايا والمشكلات الناجمة عن عهود سابقة عناسترجاع السيادة الوطنية للبلدين هي العوائق الأقوى أمام حدوثتعاون مثمر بين القطرين. ما شكل صعوبة كبرى لمعالجة القضاياالراهنة، وعثرة كأداء للتوجه سويا نحو بناء مستقبل زاهر لشعوبشمال إفريقيا. والجميع يعلم أن المشاكل، مهما تكن طبيعتها، هيمن صنع الإنسان، وهي أيضا من حل البشر، فلماذا عجز الإنسانالمغربي والجزائري عن حل المشاكل العالقة بينهما؟ ألِغياب الرؤيةالاستبصارية عن مراكز التوجيه والقرار في الدولتين، أم خدمةلمصالح جماعات وجهات معينة، أم أن العقل الجماعي المغاربيينتمي إلى مقولة: ليس في الإمكان أبدع مما كان،“؟ – وما دور القنصليات في خدمة مصالح الوطن والمواطنين؟ تقوم القنصليات بدور يشبه ما تقوم به المقاطعات الحضرية والقرويةفي المغرب. ويقوم بعضها بكامل واجبها، وتجتهد من أجل تحسينأوضاع الجالية حسب إمكاناتها، وتسيء أخرى إلى مهمتها وإلىالجالية المغربية، حين تبالغ في التعامل غير الوطني مع الرعاياالمغاربة دون مبرر مقنع. ومن أمثلة ذلك: يُحكى أن قنصلا مغربيا فيبروكسيل في سنوات السبعينيات من القرن الماضي كان يتفنن فيتعذيب المغاربة في قبو القنصلية. وحين وصل الخبر إلى الملك الحسنالثاني بصيغة: على الرغم من سوء المعاملة والتعذيب الذي يتعرض لهالمغاربة على يد القنصل في بروكسيل، إلاّ أنهم يبرهنون باستمرارعلى حبهم لوطنهم. وكان تعليق الحسن الثاني: المهم، هل يحبونملكهم؟ مما لا شك فيه أن الشطط في ممارسة الوظائف سيزداد، إذاكان هناك من يؤيده في مراكز القرار والتوجيه. وبسبب غياب تفعيلالعدالة القانونية ب“ربط المسؤولية بالمحاسبة“. – وهل تتذكر بعض ما قامت به السفارة باعتباره عملامشرفا للعمل الدبلوماسي المغربي؟ كان السفير عبد القادر بنسليمان يمتلك حسا وطنيا راقيا دفعه إلىالاجتهاد الإيجابي، واقتراح الحلول الممكنة لتجاوز العوائق والعثراتالتي تعترض بناء علاقات ناجعة بين بلدين فرقت بينهما السبل، منذمرحلة “إنسان ما بعد الموحدين“، حسب تعبير مالك بن نبي. كماكان ماهرا في الاستفادة العملية من قدرات مساعديه في تفعيلالدينامية الجديدة للعلاقات المغربية الجزائرية، وإبطال المقولةالشهيرة “ديكارت ليس مغربيا“. داخليا كان يؤمن بأن المعارضة ليست مجرد مقولة نظرية، أو مجردنص دستوري أملته ظروف معينة غير قابل للتطبيق، أو سلوكا عدائياللنظام السياسي في المغرب، كما كانت جهات معينة تنظر إلىالمعارضين، وتُصدر أحكامها بشأنهم؛ وإنما هي قيمة سياسيةمضافة لبناء الوطن المشترك. وأحتفظ في ذاكرة الزمن بعدة صور لماأشير إليه. ولكني سأتوقف عند ثلاث حالات: الحالة الأولى، كنت أرى كيف يستقبل السفير جميع من يزورالجزائر، ويعاملهم بصفته ممثلا لكل المغاربة، بأحزابهم ونقاباتهموأيديولوجياتهم، معاملة كريمة. ولم ألحظ أبدا عكس ذلك. الحالة الثانية، تتعلق بشخصي المتواضع، فقد أُخبر من طرفموظفين، وبخاصة من قبل القنصل العام بأنني من المعارضة، فكيفيمكن أن أقبل مستشارا في السفارة، وكان جوابه: هل المعارض ليسله الحق في خدمة وطنه؟ – وما هذا عن الحالة الثالثة؟ الحالة الثالثة، يمكن أن تكون هي الأهم في نظري. ففي أواخر سنة1990 حضرتْ وفود مغربية كثيرة، إلى الجزائر، تمثل مختلفالأحزاب والتيارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن كلالمشارب الحقوقية، في إطار تجديد وتفعيل العلاقة بين البلدين فيمجالات ومستويات مختلفة. وقد كانت الجزائر تمر بانتعاشاجتماعي وإعلامي وشعاراتي غير مسبوق في تاريخها السياسيالمعاصر، بسبب أحداث 5 أكتوبر 1988؛ فقرر السفير دعوة الجميعإلى مأدبة عشاء في الإقامة. وكان عدد مجموع المغاربة المدعوينيفوق 70 شخصا. وتكفل الدبلوماسيون بنقل بعض المدعوين من محلإقامتهم البعيد عن إقامة السفير بحوالي 30 كلم، لأن وسائل نقلالسفارة لا تكفي. وكان من حظي نقل أربعة محامين شبان يمثلون“منظمة العمل الديمقراطي الشعبي“. حين استقر بالشبان المقام في الإقامة الرسمية للسفير، وكان قد تمتجديدها بذوق معماري وفني رفيعين بتعليمات ملكية، وربما لاحظواأيضا رفاهية قاعة الأكل، وروح الدعابة والانبساط بين المدعوينالآخرين. تقدم نحوي أحد الأربعة فقال: نحن قررنا أن ننسحب منهذا العشاء، وهو قرار نهائي. أعلمت السفير بالحدث. فتقدم نحوهموقال بصوت مسموع من الجميع: أنتم لستم مدعوين إلى بيتالسفير، وإنما إلى إقامة ممثل المغرب وإلى دار المغرب. ولذلك فأنتمأحرار فيما تتخذونه من قرار. وعلى السفارة أن تتفاعل معهبالإيجاب، وتلتزم بإيصالكم إلى الفندق الذي جئتم منه. أتذكر هذاالتصرف وأُجلُّه في زمن حُمّل أكثر مما يحتمل.