بعد مسار طويل من التفاوض العسير، شهد مقر الخارجية الفرنسية يوم 2 مارس 1956، توقيع إعلان مشترك ينهي قانونيا مفعول معاهدة 30 مارس 1912، والتي فرضت بموجبها فرنسا حمايتها على المغرب. “وثيقة 2 مارس التي اعترفت من خلالها فرنسا باستقلال المغرب وسيادته الدولية هي أهم وثيقة وقعها المغرب في القرن العشرين”، يقول المؤرخ المعطي منجب، مضيفا أنها تتجاوز في أهميتها ورمزيتها وثيقة الحماية الموقعة يوم 30 مارس 1912 التي وضعت حدا لاستقلال ما كان يسمى بالإيالة الشريفة أو المغرب الأقصى. فقرات مقتضبة وسط بروتوكول بسيط واهتمام إعلامي متوسط، جرى الإعلان رسميا عن “استقلال” المغرب عن فرنسا، لكن ذلك اليوم لم يعد يمثل عند المغاربة سوى شارع يتيم يحمل تاريخ 2 مارس، يستعمل لإرشاد سائقي سيارات الأجرة نحو بعض الوجهات بمدينة الدارالبيضاء. يومها جلس امبارك البكاي، رئيس أول حكومة سمحت فرنسا بتشكيلها في المغرب، ووزير الخارجية الفرنسية كريستيان بينو، ووقعا على وثيقة من بضع فقرات، ترسّم ما سبق الاتفاق عليه في مفاوضات “إيكس ليبان” وإعلان “سان كلو”، وملحق يرتب بعض الخطوات التي ينبغي القيام بها. توّجت تلك الجلسة نحو ثلاث سنوات من المخاض العسير الذي مر منه المغرب منذ نفي ملكه محمد الخامس، وما تلا ذلك من أحداث سياسية جعلت استعادة المغرب لملكه الشرعي رديفا لحصوله على الاستقلال، حيث كان البكاي المقرب من القصر يوقع تحت النظرة الفاحصة لرجل البلاط ومدير التشريفات السلطانية الفقيه السيد محمد المعمري الزواوي، فيما يجلس الوزراء المتحدرون من الحركة الوطنية في الصف الخلفي، في مشهد سيحكم المملكة في المغرب منذ ذلك الحين. تستهل الاتفاقية بالتأكيد على أن الأمر يتعلق بتفاهم بين حكومة فرنسا و”حكومة جلالة الملك”، يقضي بإعطاء مفعول قانوني لاتفاقية “سان كلو” التي تم توقيعها متم 1955. وتضيف الوثيقة كما لو كان الأمر يتعلّق بمجرد تحيين لمعاهدة 1912، بكون هذه الأخيرة لم تعد “مطابقة لمقتضيات الحياة العصرية، ولا يمكن أن تكون أساسا لأن تتحكم في العلاقات الفرنسية المغربية”. في الفقرة الموالية، تعلن الحكومة الفرنسية اعترافها الرسمي باستقلال المغرب، “مع ما يقتضيه من وجود جيش وتمثيل خارجي” وعزمها على العمل على احترام وحدة الأراضي المغربية “المضمونة بالاتفاقات الدولية”. عبارات فضفاضة سيتبين في وقت لاحق أنها لم تضمن للمغرب حقوقه الترابية لا في الشرق ولا في الجنوب. البروتوكول الملحق بالوثيقة الأساسية، يتضمن ما يشبه تمديد العمل بالوضع القائم حينها، حيث يحفظ لفرنسا استمرار وجودها العسكري في المغرب، وحقها في الاطلاع على الظهائر التي سيصدرها ملك المغرب وإبداء الملاحظات عليها مسبقا، في حال مساسها بالمصالح الفرنسية، ويفرض الإشراف الفرنسي على تشكيل جيش مغربي، وعدم تسليم “ميادين التسيير” التي توجد بيد الفرنسيين إلا بعد التوصل إلى اتفاقات، واستمرار عمل المغرب بعملة الفرنك، وجعل ممثل فرنسا لدى المغرب يحمل صفة “مندوب فرنسا السامي”، عوض لقب السفير المعمول به بين جميع دول العالم. انتقادات وقلاقل رغم الطابع الوحدوي، الذي هيمن على الجبهة المغربية خلال مخاض الاستقلال، إلا أنه وبعد توقيعه رسميا أثار انتقادات كثيرة. الزعيم التاريخي لمنطقة الريف، الراحل محمد بن عبدالكريم الخطابي، كان أحد أبرز القائلين بشكلية هذا الاستقلال، لمحدودية مجاله الجغرافي، والشروط الاقتصادية والعسكرية التي رافقته. ففي مستهل العام 1962، أي شهورا قليلة بعد وفاة الملك محمّد الخامس، وتولي ابنه مولاي الحسن عرش المملكة، أجرى الخطابي حوارا مطولا مع جريدة “أخبار الدنيا” المغربية بمقر إقامته في منفاه الاختياري بالعاصمة المصرية القاهرة. الخطابي قال حينها إنه تراجع بالفعل عن وعد سابق قدّمه لمحمد الخامس، يقضي بعودته إلى المغرب، وذلك بسبب استمرار الوجود العسكري الفرنسي في المغرب. “لقد كانت المواعدة من الطرفين، فعندما حدثنا جلالته رحمه الله عن الرجوع، لم نخف عليه اشتياقنا لرؤية بلادنا… لكننا اشرنا إلى قضية الجيوش الأجنبية الرابضة بتراب المغرب، فأجابنا رحمه الله بأن هذه السنة، وكانت سنة 1960، هي سنة الجلاء، وتواعدنا على الجلاء، وعلى أن رجوعي سيكون بإذن الله. وحدث أن توفي المرحوم محمد الخامس وبقيت الأمور كما كانت عليه من قبل”، يقول الخطابي في ذلك الحوار، مضيفا أن الشعب كان دائما يطالب الحكومة بأن تخلي له السبيل لطرد الجيوش الأجنبية، “فما استجابت الحكومات لرغبته، ولا تصدت هي لطرد القوات المحتلة، بل سارعت عندما تظاهرت الجماهير طلبا للجلاء، إلى إلقاء القبض على الناس، وهذا معناه أن الحكومة هي التي تتمسك بالجيوش المحتلة…”. وضع ما بعد الحماية اتّسم، أيضا، بتوترات سياسية متصاعدة، فبعدما كان حزب الاستقلال أقلية في حكومة البكاي الأولى، صار يستأثر بعشر حقائب من الحقائب الست عشرة المكونة لحكومة البكاي الثانية. وصار على السلطان أن يحسب حسابا لهذه القوة، وأن يتخلّى عن حزب الشورى والاستقلال، منافس حزب الاستقلال ذي الأقلية. فقد حصل حزب الاستقلال على حقيبة الداخلية وحقيبة الشؤون الخارجية، وكان لعودة علال الفاسي في غشت من تلك السنة، ما زاد في قوة هذا الحزب (صار له زعيم)، والذي نادى بمواصلة النضال من أجل الاستقلال الوطني، محتجا بأن ما حرّر هو دون الخمس من “المغرب التاريخي”. كتاب: “تاريخ المغرب تحيين وتركيب” الصادر عن المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، سجّل كيف وقف كل من الملكية وحزب الاستقلال وجها لوجه بُعيد حصول المغرب على استقلاله، “تحذو كلا منهما تطلعات واضحة نحو الهيمنة. وصف ينفيه جزئيا أحد شهود المرحلة، الراحل عبدالكريم غلاب. هذا الأخير يقول في كتاب مذكراته عن الذين يتهمون حزب الاستقلال بمحاولة الهيمنة، “استندوا إلى مراجع مشبوهة، وبعيدة عن البحث العلمي”. فيما يضع كتاب: “تاريخ المغرب تحيين وتركيب”، اندلاع ما يُعرف ب”ثورة الريف” التي شهدها شمال المغرب نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، في سياق التحركات المضادة لحزب الاستقلال ومساعيه للهيمنة على المغرب. واكتفى الكتاب بفقرة تقول إن: “المغرب عرف مجموعة من القلاقل التي انطلقت بإيعاز من القوى المناهضة لحزب الاستقلال عبر أرجاء البلاد، وخصوصا بالأطلس المتوسط ومنطقة الريف، حيث تم إخماد الحركة التمردية بقسوة بالغة في مطلع سنة 1959”.