في زمن الصحافة الصفراء والإثارة، وثقافة الاستهلاك والاستعراض، حيث تذهب الموضوعية والجدية والجودة ضحايا للكم والابتذال والتفاهة، تضعف الديمقراطية ومصداقية المؤسسات، لكن نظام الحكم يمكن أن يساهم في الحفاظ على الصحافة المستقلة والنقدية، وأن ينظر إليها كشريك وليس كعدو، حتى ولو قالت فيه ما لم يقله مالك في الخمر، لأنها تبقى المرآة الشفافة التي ينظر من خلالها إلى وجهه الحقيقي. هذا هو الدرس الذي أعطاه ملك إسبانيا فيليبي السادس لكل أنظمة الحكم في العالم، وللملكيات على وجه الخصوص، إذ قال في كلمة مثيرة ألقاها، يوم الثلاثاء الماضي، بمناسبة مشاركته رفقة الملكة ليتثيا في الاحتفال بالذكرى 30 لتأسيس صحيفة "إكسبانسيون"، حيث استغل الملك حضور رؤساء حكومات إسبان سابقين ووزراء حاليين ورجال أعمال ومسؤولين وأمنيين، ليؤكد لهم أن الصحافة ليست عدوا للحكم والسلطة، بل هي مساعد على الدمقرطة ومراقب للمؤسسات. فيليبي أكد أن إسبانيا تحتاج إلى وسائل إعلام "حرة ومستقلة تحظى بدعم المهنيين الصادقين ورجال الأعمال الأقوياء"، من أجل ضمان الاشتغال الجيد والصحيح للمجتمع الديمقراطي. وهذا لن يتأتى إلى من خلال عملها على تحقيق "نموذج متين ومستدام وفعال ومربح، من أجل الحافظ على جودة المعلومة"، في إشارة واضحة إلى ضرورة بناء "اقتصاد إعلامي" يساهم في مواجهة الأزمة التي تعاني منها المقاولات الإعلامية، وتأثير اجتياح التكنولوجية الجديدة بالنسبة إلى المشهد الإعلامي. عدم القدرة على مقاومة إغواء التكنولوجية الحديثة والأجهزة الذكية، لا يمكن اتخاذه كعذر لقتل الصحافة الحرة أو تمييعها وتسفيهها لكي تزيغ عن المبادئ التي خُلقت لتدافع عنها، وفي هذا يقول فيليبي السادس: "إن التطور التكنولوجي لا يمكن أن يتحول إلى مصدر خطر وتهديد لجودة المعلومة"، مضيفا "جودة المعلومة يجب، أيضا، أن تحافظ على القيم التي بنيت عليها الصحافة". من يسمع إلى ملك يتحدث بهذه الطريقة عن "صاحبة الجلالة" يعتقد أن الصحافة في بلده كانت رحيمة ولينة ولطيفة مع المؤسسة التي يمثلها، لكن الواقع يقول إن العرش "البوربوني" كان من أكبر العروش الملكية اهتزازا ومعاناة مع الصحافة المستقلة في السنوات الأخيرة. كيف لا، والملك فيليبي السادس تربع على العرش إسبانيا في 2014 بعد أن تنازل والده خوان كارلوس عن العرش، بسبب الصحافة التي لم يسمح لها "الضمير الصحافي" بالتستر على فضائحه الغرامية والمالية والأسرية (…)، إذ تجندت لفضح ما كانت تطلق عليه بعض المنابر الإعلامية مغامرات "الملك العاشق". الصحافة الإسبانية كانت وراء كشف ستة فضائح تعتبر الأكثر دويا منذ عودة الملكية إلى إسبانيا سنة 1975: الصحافة المستقلة الإسبانية تحدثت، ولازالت تتحدث عن سر مازال يؤرق الكثير من الباحثين بخصوص "وجود روايات عديدة في ما يتعلق بوفاة الأمير ألفونسو بوربون، ولي العهد والشقيق الأكبر لخوان كارلوس، إذ إن الشقيقين ذهبا سنة 1956 لقضاء العطلة في منطقة "إسترولي" في البرتغال، لكن المثير حينها هو أن ولي العهد ألفونسو أصيب برصاصة بينما كان يلعب مع شقيقه، لتخرج بعدها سفارة إسبانيا في لشبونة لتقول إن ألفونسو كان ينظف مسدسه قبل أن تصيبه رصاصة في الجبهة، غير أن بعض المصادر تتحدثت عن أن خوان كارلوس كان يلعب مع شقيقه ووجه نحوه المسدس اعتقادا منه أنه فارغ"؛ ثانيا، انتقدت بعض المنابر الإعلامية الإسبانية الملك خوان كارلوس بكونه تربى في قصر الدكتاتور فرانكو، وأنه صنيعة للدكتاتور. على الرغم من ذلك، فإن خوان كارلوس لعب دورا مهما في الانتقال الديمقراطي في إسبانيا؛ ثالثا، أكثر من ذلك، فإن الصحافة الإسبانية اقتربت من فراش ملك السابق خوان كالوس دون أن تتعرض للمحاكمات التعسفية، إذ قالت "بأن خوان كارلوس والملكة صوفيا لم يقتسما الفراش نفسه منذ سنة 1976، وأن سبب عدم الانفصال هو رغبتهما في الحفاظ على صورة وتماسك الأسرة الملكية"؛ رابعا، انتقدت الصحافة الإسبانية بشكل قوي رحلة الصيد التي قام بها خوان كارلوس إلى بتسوانا في أبريل 2012 لصيد الفيلة رفقة رجال أعمال مشهورين بينما الشعب الإسباني يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، وزادت حدة الانتقاد بعد انتشار خبر إصابة الملك بكسر خلال رحلة الصيد"؛ خامسا، كشفت، أيضا، وجود أكثر من عشيقة لدى الملك خوان كارلوس، علاوة عن اتهامه بإنجاب أبناء آخرين مع بعض عاشقاته؛ سادسا، تورط الملك خوان كارلوس في دعم بعض المشاريع الوهمية، والتدخل لصالح بعض رجال الأعمال للاستفادة من مشاريع بالملايير في المغرب، وكذا في بعض البلدان الإفريقية. كل هذه الفضائح انتهت بتنازل خوان كارلوس قبل الأوان عن العرش. إن أي امرئ يسمع كل هذه الانتقادات الموجهة إلى المؤسسة الملكية الإسبانية لن يصدق نفسه، خصوصا عندما يقرأ تشديد الملك فيليبي على "الحماية الدستورية التي تستحقها حقوق الأخبار وتلقي المعلومة الحرة"، إضافة إلى أن "العمل الصحافي يتأسس على هذه المبادئ الدستورية الأساسية في أي مجتمع ديمقراطي"، داعيا المقاولة الصحافية إلى تقديم "المعلومة الحقيقية المبنية على الدقة والمهنية والحياد والمسؤولية"، لأنها تشكل "كنه العمل الصحافي نفسه". وأضاف أن مجال الصحافة الاقتصادية أصبح ضروريا أكثر من أي وقت مضى "إذ إن المعلومة الصحيحة يمكن أن تساعد على ترسيخ اقتصاد قادر على توزيع الثروة وخلق فرص شغل"، كما اعترف بالدور الذي يقوم به رجال الأعمال الذين يستثمرون في مجال الإعلام الذي يسمح بخلق فرص شغل للشباب، في إطار المسؤولية الاجتماعية الملقاة على الصحافيين وأرباب الصحف. ليست هذه المرة الأولى التي يعترف فيها فيليبي السادس بالدور المهم للصحافة المستقلة والنقدية، وليس تلك الصحافة الصفراء التي قال عنها الحاصل على نوبل للآداب سنة 2010، ماريو فارغاس يوصا، بأنها "أكبر خطر نواجهه في زماننا"، إذ سبق لفيليبي أن قال في 2016: "إن دور الصحافة في الاستقرار واضح جدا، وإنها ضرورية جدا للنظام الديمقراطي بهدف الاشتغال الجيد للمؤسسات والنضج المدني والنقدي للمواطنين". حديث فيليبي السادس عن ضرورة الحفاظ على استقلالية الصحافة من خلال خلق "اقتصاد إعلامي" لتجنب تعويمها في المال المشبوه، يلخص كلام ماريو فارغاس يوصا الذي يقول: "إن الخطر المقبل من داخل الصحافة التي تلهث وراء حاجيات الرأي العام المهتم بالتسلية أكثر منها بالمعلومة"، مضيفا "لم تعد هناك حدود، إذ إن الصحافة الصفراء والتسلية أصبحتا تشكلان القيم السائدة، وهو ما جعل الصحافة ضحية كل هذا. وهذا أحد أكبر المشكلات التي نتخبط فيها الآن".