وأنا أتابع قرارت الملك بشأن الريف استياء وقلقا وفتحا لتحقيق حول مشاريع تعثرت ومنعا لوزراء من عطلهم وما تلاها من قرارات، عادت بي ذاكرتي إلى كل الصور القاتمة التي شاهدتها في رمضان بمدينة الحسيمة. فمنذ أن غادرت المدينة ووجع الوطن يلازمني. لن أدعي أنني عاينت فقرا يتجاوز ما وقفت عليه خلال العقدين الأخيرين بالمغرب في مناطق صدمتني فيها مشاهد البؤس الاجتماعي، كما حدث معي في روبرتاجات أنجزتها في مريرت أو تغسالين أو قلعة مكونة أو خلال زيارتي إلى تالسينت.. لن أدعي أن منطقة الريف الأفقر في المغرب، وأنا أتابع كيف طمر الاهمال جثة ايديا في الجنوب الشرقي، غير بعيد عن الرقعة الجغرافية التي حجز فيها الناشط الأمازيغي من ليبيا تذكرة إلى القبر وقد غادر قريته محبطا ويائسا، وقادت لسعة عقرب طفلا إلى الموت في تنغير.. والأمثلة كثيرة في مغرب يحبل بقرى ودواوير تدخل ضمن منطق المغرب غير نافع، لكن صور المتاريس الأمنية وعناصر الأمن بمختلف تلاوينها وهي تطالبك ببطاقة التعريف الوطنية لدخول حي سيدي عابد، والعداء والحقد الذي رأيته يتطاير بين شباب غاضب لم يتصالح مع ماضيه الغارق بالانكسارات والحكرة والنسيان والتهميش، وبين رجال أمن يعيشون حالة استنفار طالت منذ مطحن السماك فكري.. صور التراشق بالحجارة والغاز المسيل للدموع وصور الكدمات على ظهور المتظاهرين، ولا أقصد هنا تلك الصور التي هددت وزارة الداخلية بمتابعة المروجين لها .. شخصيا أفرق جيدا بين صور سوريا التي راج بعضها على أساس أنها لضحايا الحراك وبين صور المغرب، صور ريفيين تعرضوا للعنف، بما فيها صورة ذلك الشاب الذي اصيب قبل الافطار وتداولت الصحافة صوره والدم يخضب وجهه، وبعد الافطار ظهر وهو يضع ضمادة على رأسه مواصلا شعاره « سلمية سلمية لا حجرة لا جنوية ».. رأيت الحقد والغل ينهش الجانبين.. رايت الرجال والنساء يبكون.. رأيت كيف بكى شقيق المعتقل حينما علم أن والدته وأخته فقدتا الوعي ووضعهما الصحي في الحضيض بسبب حراك يغلي وقريب مبعد.. بكى ومسحت رفيقته في النضال دمعته وهي تردد « أرجوك لا تفعل هذا. أمك واخوتك في حاجة اليك.. إنها سحابة وستزول.. سيعود الريف كما كان هادئا.. سنلتف حول كوب الشاي والحلوى بعد اطلاق سراح المعتقلين.. » رأيت ساكنة لم تعد تفرق بين الليل والنهار بعد أن جفاها النوم، وتركت الاعتقالات في وقت متاخر أو في الفجر مكانا للأرق.. حضرت محاكمة قال فيها دفاع معتقلي الريف: « أخجل أن اقول ما قيل لموكلي لحظة اعتقاله والتحقيق معه في الكوميسارية بالحسيمة «، وسمعت عن الحرس القديم والحنين إلى الماضي، وشاهدت الدكتور النشناش يبكي بعد زيارته لسيليا في السجن، صوت الفن في الريف.. رأيت ورأيت، ولم يقنعني أولئك الذين حاولوا أن يشرحوا لي، نقلا على لسان وزراء في حكومة العثماني، أن المقاربة الأمنية في الحسيمة في جوهرها تنموية، بدعوى أن رجال الأمن بخوداتهم وادرعهم الحديدية ومتاريسهم، ها هنا ليعيدوا الثقة لمستثمرين بمنطقة رصدت لها امكانيات مالية لتأهيلها ! وأخيرا تدخل الملك، كما حملت العديد من المناشدات التي نقلناها من عين المكان إلى أعلى سلطة في البلاد، وهذه خطوة إيجابية، لكن، اذا كان الملك سيحاسب الذين تورطوا في عرقلة مشاريع الحسيمة التي تغلي، فلماذا يظل في السجن أولئك الذين خرجوا للشارع ليصرخوا في وجه معرقلي التنمية في منطقة معاقبة سياسيا؟ من المسؤول عن « الغنان » في الريف؟ يقال « تغنانت » بالريفية، أي تشبث برأيه حتى وإن لم يكن على صواب، فلماذا يرتفع صوت « الغنان » وتقدف مسيرة العيد بالقنابل المسيلة للدموع؟ ويهان والد الصحافي اصريحي ويجبر على انزال العلم الاسود الذي وضعه على سطح منزله حزنا، ويحمل في حالة حرجة إلى المستشفى؟ من يعبث في الجرح، في الوقت الذي يتراس الملك اجتماعا لضمد الجراح؟!! كثير من الأجوبة تظل عمياء، وحدها الأسئلة ترى الحقيقة !