الطريق السريع الرابطة ما بين مدينة طنجة، في أقصى الشمال الغربي المغربي، وما بين العاصمة الرباط الواقعة جغرافيا في غرب المملكة، نسجت خيوطا جغرافية لتمرين اعتيادي خلال كل شهر، برحلات عبر حافلات النقل ما بين المدن للقيام بتمرين روحي لعيادة العائلة، ولشحن الجانب العاطفي الشخصي بعد مرور أيام طويلة من المكوث في الحي الجامعي سواء في المدرسة التعدينية أو في مدينة العرفان، فزمن العرفان جاف عاطفيا من الناحية العائلية، وما كان يحول في فترات بيني وبين أن أوجه وجهي للشمال قلة الإمكانيات المالية. نجحت في حفظ الطريق بأشجارها، وبحقولها الزراعية، وبرمال المحيط الأطلسي القريبة من الطريق السيار السريع الرابط ما بين عاصمة المغرب وبوابة البلد على أوروبا، وكنت أتمنى الحصول على وجبة شواء من اللحم الأحمر مع براد ساخن من الشاي الأخضر المرافق بالنعناع، إلا أن الحلم بقي مؤجلا إلى حين من الزمن القادم، وخلال رحلات العودة للرباط في الصباح الباكر كنت أستسلم للنوم العمليق على الحافلة، ليتوقف التفكير، ويبدأ الحلم ولو صباحا.
وفي أحد أعياد الفطر، ومع الإقبال المتزايد غير الاعتيادي على حافلات النقل الطرقي، وبسبب احتيال شباك التذاكر، وجدت نفسي في حافلة تسافر عبر ما تسمى بالطريق الوطنية، الرابطة ما بين الرباطوطنجة، عبر مدن غرب المغرب على امتداد الحقول الشاسعة، ليتحول السفر إلى رحلة بدون نهاية، إلى أن مرت 7 ساعات، لتظهر مدينة طنجة، بعد أن مرت الحافلة عبر قرى ومدن صغيرة الحجم.
وفي مناسبة أخرى، وجدت نفسي طيلة 8 ساعات على متن القطار، صوب طنجة قادما من الرباط، بسبب التأخر غير الاعتيادي للقطار، والانتظار في محطة التحويل في مدينة سيدي قاسم، فبعد انطلاقة للرحلة في الساعة العاشرة صباحا، ليكون الوصول لطنجة ما بعد آذان المغرب، وتناول الجميع لوجبة الإفطار في القطار بطريقة ترقيعية، لتبقى الرحلى حدا فاصلا في علاقتي مع القطار.
السفر ما بين المدينة الجامعية وما بين مدينة إقامة العائلة، تمرين استمر ل 4 سنوات من الدراسة في المعهد العالي للإعلام والاتصال، في وصال للروح بمكان سنوات الطفولة، وأول المراهقة، والمصنع الأول للذكريات التي يختلط فيها الجميل بالسيء، وحقل تجارب الأفكار الأولى، والقدرات التعبيرية الأولى في المجادلة، ومحاولات تحرير الأسرة من التقاليد التي أعتبرها أكبر سجن لكل تطور للبنية الأسرية لا يزال المجتمع المغربي يعاني من آفاته ويمارس لإخفاءه نفاقا ظاهرا للعيان.
وفي الابتعاد عن مدينة طنجة، كنت أجد حريتي الكاملة في الحياة، من دون جدول زمني للدخول والخروج من المنزل، وفي غياب لرادارات المراقبة الأسرية، إلا أن الحنين للمدينة كان يزداد كلما طال بي المقام في الرباط، وهي جدلية من المشاعر لا مخرج لها ولا مسقط لها، ورافقني الحنين ليتحول إلى ممارسة حياتية اعتيادية، ولطالما قلبتها من كل الاتجاهات إلا أن ماكينة التفكير لدي ظلت عاجزة، لأن الجانب النفسي يظل مسيطرا في كثير مناسبات كثيرة، ولو أن العقلانية تصبح عقيدة في عز سنوات الشباب والإقبال على المعرفة.
وفي محطة الحافلات في كل من مدينتي طنجةوالرباط، مشاهد من حياة أخرى، متسولون ومتسولات، ومنهن من تستعين بطفل للاستجداء، ومقاهي تمتلأ بالباحثين عن أول قهوة الصباح، ومحتالون يحملون أوراقا يقولون إدعاء إنها تذاكر، ينسجون شباكا من الاحتيال على كل من لا يقصد الشباك القانوني، وفي قلب محطة الرباط الشهيرة باسم القامرة، عبارة بالبنط العريض، تدعو لأخذ التذاكر من الشبابيك، وفور سقوط الضحية يسارع المحتالون الذين يحملون اسم "الكورتية" بالدارجة، إلى إدخال المسافر للحافلة وأخذ مقابل مالي يتراوح في الغالب ما بين 5 و10 دراهم.
السفر في المغرب عبر الحافلات أو القطار خلال السنوات الأربع للدراسة الجامعية العليا، مغامرة لا تخرج سليمة العواقب، ولكنها تترك صورا من مغرب لا يقبل مساحيق التجميل، عار لأنه في مكان تنطلق منه أو تصل إليه أسفار، وتختفي مساحيق التجميل للنساء، وعلامات النعاس بادية على الوجوه.