توجد كلمات في اللغة العربية لا يمكنني أن أستعملها ولو وضعوا مسدسا على صدغي. إنها مسألة مبدأ واكتفاء وتقشف في العربية واختيار وإيمان. لا مندوحة وهيهات ولعمري وبادىء ذي بدء والقهقرى ....... هي من بين تلك الكلمات، وحتى أصدقائي وعلاقاتي أحددهم انطلاقا من الذين يستعملونها أو لا يستعملونها، فلا يمكنني مثلا أن أثق في شخص يكتب بادىء ذي بدء، وأحدس بالفطرة أنه ينوي شرا، وأنه يخفي شيئا ما.
وحتى لو هددوني بالقتل فسأبقى مصرا على ارتكاب بعض الأخطاء ولن أرضخ للقواعد وأكتب فاك أو فوك بدل فمك.
لا يستحق الفم كل هذا الإذلال والرضوخ ، إنه فم وليس فا أو فو أو في. وإذا قال لي أحد لا فض فوك أو فاك فهو ينوي إغاظتي.
لم أعد أطمئن لأكثر من صديق شاعر لدفقهم اللغوي وكرمهم في ما يخص الكلمات ولغنائيتهم الفائضة واستعراض قوتهم الأسلوبية، فالمسألة بالنسبة لي دائما هي مسألة مبدأ.
أكشف غير الصادقين من لغتهم ومن الكلمات التي يوظفون، وهذا ما يحدث لي دائما في الفيسبوك، مع أصحاب دامت لك المسرات وأيها الجميل ودمت متألقا.
لا تصدقوا من يكتب مثل هذه العبارات، إنه منافق، وانبهاره وإطراؤه وراءه ما وراءه.
لا يهمني ما يقوله الكتاب بل كيف يقولونه، وكم من رجعي أحبه بسبب لغته، وكم من يساري وحداثي أنفر منه بسبب لغته.
اللغة فضاحة، وهي التي تكشف المدعي من الصادق، والكاتب الجيد من الكاتب الرديء، ومعظم الكتاب اليساريين هم يمينيون بسبب اللغة التي يستعملون أساسا.
اللغة العربية ليست محايدة، وبها أعرف النوايا الحقيقية وأعرف المبادىء والثائر من غير الثائر.
المخزن لا يلعب باللغة ويحرص دائما على كلمات بعينها، بينما الثوار يستعملون لغة المخزن ولغة السلطة ولغة الإسلاميين.
وعندما يكتب الرجل الثاني في التوحيد والإصلاح، تشعر أنه دخيل ومتطفل على الإسلاميين وعلى الحركة التي ينتمي إليها، بسبب لغته أساسا، فردوده تبدو كما لو أنه لم يقرأ حديثا ولم يحفظ قرآنا، فالإسلامي الحقيقي وإن استعمل لعمري فإنه يبقى فصيحا ولغته تدل عليه، وهذا لا يتوفر في رجلهم الثاني. أما الريسوني فيكتب كمن يخطب، والسبب هنا واضح وليس سرا، فبحكم الدور الذي يلعبه تحول إلى كاتب شفهي.
وهناك كتاب لهم علاقة وطيدة بالخليج وصحافته ومجلاته، ودون أن يشعروا أصبحوا منهم ويسكنون في لغتهم. اللغة قهارة ومغرية، وهيهات هيهات أن ترضخ لك، وأسوأ ما فيها"هكذا لغة".
لم يعد اللسان الفصيح والمبين هو الضليع في اللغة العربية والمتمكن منها والذي ينهل منها ويأخذها بالكامل، بل ذلك الذي يحذر منها ويخاف ويعيش يوميا في حرب طاحنة مع كلماتها، ويواجه جبروتها وسطوتها بضعفه، فأكبر الأعمال الأدبية الآن، هي تلك التي تشعر بوهن مقصود بين جملها، وهن المتحلل من أسر وثقل التاريخ والسلطة، أي سلطة.