سواء قلنا، بأن مراكش أضحت شبيهة بقطة شرسة تلتهم أولادها في كل حين. أو، وثقنا للمؤرخين مجموعة من الحكايا السوريالية عن مدينة تفقد عقلها باستمرار...، فالأمر سيان. أن توظف لغة مجازية، منفلتة، إيحائية لكي تلعن أمام كل العالم وبكل ما أوتيت من قوة تلك البنايات الصماء، التافهة، وهي تنبت كالفطريات مثل المصاب بعدوى قاتلة، أو قمت بديباجة سريعة لبيان مباشر يرفض بكل الوسائل، ضياع نقاء الإنسانية بين الدروب المعتمة لمافيات المال بعد أن قامت بدفن أوراقها وراء أكمة : الأسواق التجارية، المقاهي، الفنادق، قاعات الألعاب، التجمعات السكانية...، لكي ترسم ملامح مدينة تنتفخ جراء الفراغ والخواء. "" عن ماذا تتكشف اليوم مراكش ؟ بالطبع، الحلقة المفقودة في كل التقارير الإعلامية، حينما تراقص سراب تلك الوتيرة التوسعية غير المعهودة، لمدينة المرابطين،تتمثل في تغييب الحديث عن الثوابت والأسس المنطقية السوسيو تاريخية للمسارات الجديدة. بمعنى ثان، مراكش الحالية مدينة كوسموبوليت Cosmopolite، نتاج مغلوط لسياقات العولمة الجحيمية حيث المال وحده، يقيم بقوة: الفرضيات، الحدود، الممكنات، الجماليات، الوقائع، المفاهيم، المتغيرات، المبادئ، الأفكار، المعقولات... إلخ. بالتأكيد لزومية الإنسان، غير مطروحة بتاتا وبالمرة. بل، أكثر من ذلك إذا تأملنا جيدا المعادلة، نلاحظ بشكل مذهل تواتر مبررات العولمة، بشكل يتعارض كليا مع كل تقويم سليم ومتعالي للذات الإنسانية: استفحال الاستغلال وتثوير آلياته، لكي يغدو أكثر ذكاء وفعالية، العبودية، الحروب، المافيات، بشتى أنواعها، العهارة بأشكال مؤسساتية، تجارة الأطفال، اتساع أسواق السلاح، انكفاء نهائي للقيم والمثل، العماء الإيديولوجي... . إجمالا، انهيار الإنسان. الأوليات التي أريد الاستناد عليها، قصد توسيع مشارب هذه التلميحات، تتحدد فيما يلي : 1-وضع مراكش هش، بل زائف ومتوهم. مع افتقاد "نموها" للمقومات الأساسية والركائز المتينة، لأي نهوض اقتصادي، أقصد الإنسان باعتباره محورا لكل شيء. -2 المشروع التنموي والمجتمعي المتكامل. بالتأكيد، يستحيل قطعا فصل تهيئ المشاريع السكنية مثلا، عن البرامج الإيديولوجية للتربية المدنية، وتأهيل الكائن الإنساني في أفق مماهاة اللحظة الوليدة بكل انبثاقاتها. -3ضرورة توفر الروح الوطنية العميقة، عند أصحاب الملفات والمسؤوليات. ذلك، وحده يشكل للمواطنين ضمانة معنوية وأخلاقية، فيما يخص الائتمان على مستقبل المدينة. في بلد مثل المغرب، لازالت أجهزته الديموقراطية ضعيفة جدا، قصد القيام بأدوارها الحضارية البناءة في المراقبة والتأطير وتحريك روافد المجتمع الحديث والقوي. لا نثق في مجالس وهيئات تمثل فقط نفسها، أو أفرزتها انتخابات، عجزت عن ملامسة حتى ما كان يحدث في المدينة الإغريقية منذ آلاف السنين قبل الميلاد، لكي لا نفرط في التفاؤل ونقول فلسفة الأنوار. أي عملية سياسية نتحسس، بالقياس إلى بلد تنخر شعبه الأمية والفقر : نخبته مشردة وزئبقية، سياسيوه كائنات مصطنعة، مثقفوه تائهون. مؤسساته متعفنة... . ماذا تبقى إذن ؟!!. لاشك، أن مقياس كل تنمية حقيقية وصادقة، يتجلى في تأثيراتها المادية والسوسيو ثقافية على أصحابها، ثم النماذج البشرية المتوجهة إليها. النتيجة الأولى، تلاشي أدنى مظهر للاستيلاب والاغتراب بين الأفراد وواقعهم المادي. إذا توخينا، إسقاط ذلك على آفاق مراكش نلاحظ : * تضخم هستيري لعقليات الإسمنت، وفكر الواجهات المتهالكة. لذا، القفزة "الكيفية" للمدينة توازي في خطاب جوقة المسؤولين، الاجتياح العمراني السريع، مقارنة مع ما كان الأمر عليه سابقا منذ عشر سنوات على أبعد تقدير. إن دل ذلك على شيء، فهو يعكس أولا وأخيرا المنحى الاستهلاكي الهذياني، الذي ينقاد وراءه المواطن المغربي، امتثالا لأفق فكري عقيم أراده أصحاب الاحتكارات الاقتصادية لهذا البلد، وما ينطوي عليه ذلك من مخططات سياسية ارتدادية تستهدف استنزاف الزخم الروحي واجتثاث كل أوليات الوعي التاريخي الوضاء حقا. *من الناحية الاقتصادية، لا يعكس تعمير المدينة بهذا الشكل انتعاشة اقتصادية ملموسة على الوضع الإنتاجي للساكنة، أو ولوجهم الفعلي إلى حياة اقتصادية مؤسسة تشكل جسرا بناء بين الزمان اللحظي والكوني. المفارقة، أن الناس لا يزدادون إلا فقرا وتهميشا، دليلنا أيضا، الشلل التام للخدمات المجتمعية الضرورية. أي، كل ما يوفر أسباب العيش الحضاري، والكرامة الآدمية للمراكشي. أن تطأ قدمك مؤسسة صحية، أو خدماتية، يعني بشكل حاسم معايشتك الوقائعية لعلاقات القرون الوسطى. ينتفي، الوازع الجماهيري. هي مدينة أضحت وليمة متنقلة لأفراد بعينهم، تتحالف حتى مع الشيطان لضخ جيوبها بمزيد من الأموال والغنائم. تلك مراكش"هم"، مسخوها باسم التاريخ والحضارة والجمال إلى ديناصور أكول، له دماغ مسطح. ما كنا نتداوله ذات يوم، على سبيل التفكه بشأن فضاءات بعيدة مثل برازيليا، بانكوك... . أضحى فعلا تحيتنا الصباحية. مدينة، تهتز وهما وعبثا، تخفي بين أطرافها على الرغم من رتوش الخفافيش امبراطوريات الفقر، الفاقة، التهميش، الضياع، الحقارة ، المصير السديمي، والمستقبل/ العدم. أيها القادمون، قد يشيرون لكم عن مراكش بمقاهي شارع محمد الخامس، الفنادق التي تسابق الريح، آخر صيحات السيارات والهواتف المحمولة، ربما أيضا تلك العلبة الليلية "الجلل" الموجودة عند منتهى شارع محمد السادس، مراكش مواقع الأنترنيت، الوصلات الإشهارية، المراهقات اللواتي يغرسن من جديد اللذة بين قنوات الأجهزة التناسلية الصدئة لشيوخ أوروبا ومحاربيها القدامى... . مراكش، طريقها واحد، إنها ما بعد خطوط الفقر، حيث بالكاد دولار واحد في اليوم، إن كنت من أهل الفهلوة والعارفين جيدا بطرق القوافل. حتما، المدن العالمية الشهيرة : باريس، مدريد، نيويورك، طوكيو، برلين، لندن، أمستردام، كوبنهاغن، روما ...، ارتبط نموها باختيارات سياسية قومية واضحة، في إطار مشروع يتجاوب بإيقاع مع الاقتصادي، الفكري، الثقافي، والتاريخي...، حيث يستحيل فصل بنية الواحد منهما عن الآخر. لذلك، تبدو تلك المدن منسجمة تماما مع وضعها واحتمالاتها. أين مراكش، من ذلك إذن ؟؟ عفوا، نريد مراكش لنا.