لمدينة بولمان شقيقتان أخذتا منها كل شيء.. شقيقة تسمى فاس غطت عليها فيما يتعلّق بجهة تسمى مجازاً فاس-بولمان، وشقيقة تدعى ميسور أخذت منها العمالة وكل المرافق الحيوية رغم أن الإقليم يسمى مجازاً إقليم بولمان. هكذا تظهر بولمان عندما تدلف إليها من أبوابها مجرّد بلدة صغيرة مرّت عليها التنمية سريعاً فلم تمنحها سوى فتاتٍ تجلّى في شارع رئيسي قصير ومركز صحي وثانوية وبلدية وبعض الملحقات الأخرى. في هذه المدينة الباردة التي تحتاج معها إلى البحث عن أسمكِ معاطفك وأكثرها دفئاً، تتعدد أوجه معاناة المواطنين، ومن ذلك ما يُعرف ب"محنة البطاقة الوطنية". تتلّخص هذه المحنة في السفر إلى ميسور البعيدة بمئة كيلومتر، وأخذ مكانٍ بين طوابير العشرات من المنتظرين. ولأن إجراءات التسجيل تتم غالباً في الصباح، فعلى ذلك القادم من بولمان أن يسافر ليلاً كي يقف في صباح اليوم الموالي في الطابور، وإذا أسعفه الحظ قد يعود إلى مدينته في اليوم نفسه أو ينتظر إلى ما بعده. هكذا يقضي المواطن يومين على أقلّ تقدير لأجل القيام بإجراءات طلب بطاقته التعريفية التي يقضي بها مصالحه الإدارية، وهكذا تجبر هذه المحنة بعض ساكنة القرى، ممّن لا يستطيعون التنقّل إلى بولمان، إلى التخلّي عن حقهم في البطائق نهائياً. وقد حكى لنا بعض الفاعلين الجمعويين بالمدينة كيف أنهم يصادفون أفراداً كثر لا يملكون بطائقهم التعريفية أو يحملون تلك التي تجاوزت صلاحيتها القانونية. ليس فقط البطاقة الوطنية هي التي تجبر المواطن على السفر إلى ميسور، فحتى وثيقة "حسن السيرة" توجد هناك، ورخصة السياقة تتمركز هناك، والمحكمة الابتدائية تنحصر هناك، وغيرها من المصالح الحيوية التي لها علاقة بحياة المواطن، بل إن الأمن الوطني يمتلك ملحقة ب"أوطاط الحاج" ولا يملكها ببولمان. باختصار، فهذه المدينة التي يخيّل لمن لا يعرفها أنها أكبر وأهم مدن إقليم بولمان، تبقى مجرّد تابعة لمدينة أخرى أصغر منها مساحة. غير أن الفرق بين بولمان وميسور لا يتوقف في المساحة فقط، بل إن الاختلاف بينهما يصل حدّ النقيض، فغالبية ساكنة ميسور تتحدث الدارجة وغالبية ساكنة بولمان تتحدث الأمازيغية ومنها تلك التي لا ينطق لسانها بغير هذه اللغة، والطبيعة الجغرافية التي تتميز بها ميسور صحراوية بينما يغلب الطابع الجبلي على بولمان، وفي الوقت التي تغطي فيه الثلوج بولمان يبقى الجو عادياً أو تتخللّه أمطار على أقصى تقدير. هذه المحنة دفعت ببعض مواطني المدينة إلى المطالبة على الأقل باعادة بولمان إلى ما عليه قبل عام 1992، أي أن يعود إلى مجلس قروي بدل أن يكون مجلساً حضرياً دون فائدة:" على الأقل، لو بقيت بولمان قروية، لاستفادت بشكل أكبر من العلف المدعم بنسبة قد تصل إلى الضعف" يقول لنا أعضاء من جمعية أيور للثقافة والفن، مستطردين:"العودة إلى وصف القرية يبقى أفضل من الإبقاء على وصف مدينة تعاني في كل شيء". يعترف رئيس المجلس البلدي لبولمان، لحسن وافي، بالوضعية الهشّة التي تعيشها المدينة من الناحية الاقتصادية، قائلاً في تصريحات لهسبريس:" معظم الساكنة هنا تعيش على عتبة الفقر، وللأسف لا يتم استغلال إمكانيات المنطقة الفلاحية ولا السياحية، بل إن وزارة السياحة لا تملك أيّ مكتب لها بالإقليم ككل. كما أننا لا نتوفر في البلدية على الرصيد العقاري الذي من الممكن أن نجذب به المستثمرين ". تزداد محنة الساكنة سوداوية عندما نعلم بحجم البطالة السائدة هنا، باستثناء نسبة قليلة من الموظفين في الإدارات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، وبعيداً عن المتقاعدين الذين اختاروا إنهاء مسارات حياتهم في منطقة تأوي مبكراً إلى فراشها بسبب برودة الطقس، تُتاجر نسبة مهمة في الحطب رغم عدم قانونية ذلك، ونسبة أخرى في الرعي الجائر. أما ما تبقى من الشباب، فيقضون غالبية أجزاء أيّامهم في مقاهي المدينة المتواضعة يدخنون ما أباحته الدولة وما لم تبيحه، بينما تقضي النساء "العاطلات" أوقاتهن في التسلّي بأعمال بيت لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. كانت المدينة تعرف فيما قبل مجمعاً للصناعة التقليدية، كان ملاذاً لعشرات النساء اللائي استعنّ بأجره القليل لمحاربة فقر يلتهم كل أركان هذه المنطقة، غير أن هذا المُجمع توقف عن العمل منذ أزيد من عشر سنوات، ليلفظ نساءً بينهن من تعيل أسرة بكاملها، كسيدة حكت لنا بكثير من الألم، كيف تعمل في "تخمال" المنازل لجلب الخبز والحطب لأبنائها الستة، بعدما طلّقها زوجها دون اكتراث بمن سيطعم تلك الأفواه الجائعة. يتحدث وافي: "ناقشنا وضعية المدينة مرّات كثيرة مع المسؤولين، وبيّننا على استعداد المجلس للمساعدة بكل ما يتاح له من إمكانيات، لكن لحد الآن لم يُستجب لمطالبنا". مردفاً:" منذ إحداث العمالة بالإقليم عام 1975 وهي تتواجد بميسور، ومنذ ذلك الوقت ومجموعة من المصالح المهمة تتواجد بهذه المدينة". مستدركاً:"جميل أن تتم تنمية ميسور وأوطاط الحاج، فهذا في صالح الإقليم، لكن لماذا تم تهميش بولمان بالذات؟" يتساءل الرئيس، مشيراً إلى أنه على المسؤولين الالتفات إلى وضعية مدينة تئن في صمت. غير أن كلّ رمي جزء من مشاكل بولمان على ميسور قد يظهر غير منصف، فحتى ميسور، تحمل في أحشائها هي الأخرى مغص الفقر ووجع البؤس حتى وهي تستحوذ على مصالح الإقليم. وربما أنه لولا إحسان قادم من الإمارات أطلق مجموعة من المشاريع التنموية، لكانت وضعيتها شبيهة إلى حد بعيد بوضعية شقيقتها الكبرى بولمان. هكذا تتضامن أجزاء هذا الإقليم بعضها مع بعض في المعاناة، حتى ولو كان لسان حاله يقول:" وفضلتُ بعضكم على بعضٍ في التهميش".