بعد ستين عاما من الصراع المسلح مع الدولة الإسبانية أعلنت حركة "إيتا" الباسكية الانفصالية يوم السبت اعتذارها للشعب الإسباني عن الأعمال الإرهابية من قتل وتعذيب واختطاف وتفجير، في بيان تاريخي غير مسبوق. وجاء في البيان الذي نشرته مختلف الصحف الإسبانية أن الحركة تعتذر للضحايا وعائلاتهم وتتعهد بعدم تكرار ما حصل طوال مرحلة "سنوات الرصاص"، كما يطلق الإسبان على المرحلة السوداء التي ساد فيها إرهاب الحركة. ليس من عادة الحركات الإرهابية أن تعتذر إلى الضحايا أو المواطنين أو الدولة بشكل تلقائي نابع عن قناعات سياسية وفكرية. فغالب هذه الحركات ينطلق من أنه يحمل قضية يدافع عنها، مهما كان المجتمع بكامله ينظر إلى تلك القضية على أنها قضية خاسرة ولا تعكس مطامحه. ثم إنها عندما تتراجع وتتخلى عن السلاح لا تفعل ذلك انطلاقا من قناعة حقيقية، بل من موقع هزيمتها في المعركة وتسليمها بالأمر الواقع وعدم قدرتها على تغيير ميزان القوة، أي أنها تفعل ذلك من باب الضرورة لا من باب الاختيار. ولكن التجربة الإسبانية اليوم تصلح للتأمل. ففي الوقت الذي يواجه فيه العالم العربي اختبارا صعبا مع الجماعات الإرهابية، يمكن لتجربة دولة من الاتحاد الأوروبي أن تكون مرآة عاكسة ننظر من خلالها إلى الحالة العربية. وعلى الرغم من أنني مقتنع باختلاف المعطيات السياسية والثقافية والدينية في العالم العربي عنها في إسبانيا أو أي بلد أوروبي آخر، إلا أن التجربة الإسبانية لا تعدم مبادئ كبرى يتعين الوقوف عندها بالرصد والتحليل. أول دروس التجربة الإسبانية مع الإرهاب أن الإرهاب عمل طويل في الزمن. لقد ظهرت حركة إيتا عام 1959 في المرحلة التي قاد فيها الجنرال فرانسيسكو فرانكو البلاد بقبضة من حديد. وفي تلك الفترة لم تكن إسبانيا سوى بلد فقير يقع على خاصرة أوروبا مطلا على المتوسط المتخلف الخارج من الاستعمار. كانت السوق الأوروبية المشتركة مجموعة صغيرة تضم بلدانا قليلة ذات تاريخ عريق وتشعر بنوع من الغرور لكونها تشكل نشازا في القارة العجوز، قبل أن تجد نفسها مضطرة أمام القوة الأمريكية والسوفياتية إلى التوسع غربا بحثا عن القوة، فكان حظ إسبانيا أنها وجدت نفسها داخل الاتحاد. وبالرغم من الإرهاب الذي مارسته الحركة خلال الستينات والسبعينات، وقدرتها على الصمود أمام صلابة فرانكو، تمكنت إسبانيا من بناء ديمقراطية حديثة بعد رحيل الجنرال، بفضل حنكة ملك شاب أراد أن تصبح الملكية قاطرة تستطيع أن تقود البلاد في سفرها الطويل، هو خوان كارلوس. لم ينجح الإرهاب في وقف المسيرة الديمقراطية في البلاد، بل وضعت هذه الأخيرة دستورا جديدا في نهاية السبعينات منح الأقاليم التاريخية المعروفة صلاحيات أوسع تكريسا للديمقراطية التشاركية، بما فيها منطقة الباسك حيث ظهرت حركة إيتا. واستمرت عملية التطوير وتوسيع الصلاحيات تدريجيا من دون أن يصبح الإرهاب حجر عثرة أمام التوجه الديمقراطي. وبعد ستين سنة نجحت التجربة الديمقراطية الإسبانية وفشل الإرهاب. الدرس الثاني هو الوحدة الوطنية. إن إسبانيا هي البلد الأوروبي الوحيد الذي يتميز بتعدد الإثنيات والقوميات، ولعله البلد الأوروبي الوحيد أيضا الذي لا يشكل فيه الشعب "أمة". وحسب المؤرخ الإسباني الكبير أميريكو كاسترو، ما كان يمكن لإسبانيا أن تصبح "أمة" لولا التحدي الذي فرضه العرب والمسلمون وضرورة الوحدة من أجل الحصول على غرناطة وطرد المسلمين واليهود نهائيا في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. وتقيم هذه الهشاشة في بنية الدولة حتى اليوم، والأحداث التي حصلت في إقليمكاطالونيا في العام الماضي وإجراء الاستفتاء من أجل الاستقلال عن إسبانيا دليل واضح على المخاطر التي تعتمل في نسيج الدولة الإسبانية. ويشعر الجميع هناك بأن بنية الدولة لا تقف على أسس قوية يمكن أن تضمن لها البقاء من الناحية الاستراتيجية، وهو ما تعكسه الكتابات النقدية، كالكتاب الشهير الذي أصدره الباحث الإسباني "سيزار ألونسو دي لوس ريوس" قبل أزيد من خمسة عشر عاما تحت عنوان"وماذا لو سقطت إسبانيا؟"، حيث تكهن فيه بتفكك إسبانيا إلى دويلات. ولكن الدولة استبدلت الهشاشة القومية بالديمقراطية القوية، وقد ضمنت هذه الديمقراطية تعايش الجميع تحت ظل دستور يجمع مختلف الأطياف تحت مظلة واحدة. إن وجود قانون يضمن حقوق الجميع ويتيح للجميع التعبير عن نفسه يمكن أن يكون ضمانة للتعايش المشترك. وتذكرنا إسبانيا في واقع الأمر بالتجربة الإسلامية في القرون الخوالي، حيث عاش الجميع تحت سقف واحد بسبب سيادة القانون والسماح بالحريات، لكن في ظل الخضوع لسلطة مركزية. الدرس الثالث هو النمو الاقتصادي. استطاعت إسبانيا أن تبني اقتصادا حديثا قادرا على الإدماج. وهذه العلاقة بين النمو الاقتصادي والإدماج هي النموذج الفريد في المجتمعات الأوروبية الحديثة. وخلافا للأوضاع في البلدان العربية، حيث يتم التسويق لتزايد مؤشرات النمو بمعزل عن إدماج مختلف شرائح المواطنين بوصفه مثالا للعافية الاقتصادية، فإن التجربة الإسبانية تمثل العكس من ذلك. والسبب أن النمو الاقتصادي لا يعني بالضرورة استفادة الجميع منه، بل قد يكون نموا في الحراك الاقتصادي الذي يستفيد منه الأغنياء والخاصة، وهذه بالتحديد هي الحالة في العالم العربي. أما الدرس الرابع فهو تنفيذ سلطة القانون في مواجهة الإرهاب، مع مصاحبته بالعنف المشروع للدولة. فإسبانيا طوال ستين عاما لم تتنازل في ملاحقة الإرهابيين من حركة إيتا، ويوجد اليوم حوالي 400 عنصرا من الحركة في سجون إسبانيا وفرنسا. وطيلة تلك المدة الطويلة تمكنت الدولة الإسبانية من محاصرة الحركة والتضييق عليها، وبالموازاة مع ذلك محاصرة أي تنظيم سياسي يمكن أن يتخذ من الديمقراطية آلية للخداع، بينما هو في الخفاء ذراع سياسي لحركة إرهابية.