قال كبير الناثرين العرب أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ واصفا الكتاب: ( .. والكتاب هو الجليس الذي لا يُطْريك، والصديق الذي لا يَقْليك، والرفيق الذي لا يمَلُّكَ، والمستميح الذي لا يؤذيك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق. والكتاب هو الذي إذا نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوَّد بيانك، وفخَّم ألفاظك، وعمَّرَ صدرك. ). وقال كبير شعراء العربية، أبو الطيب المتنبي: أعز مكان في الذُّنا سرج سابحٍ ** وخير جليس في الأنام كتابُ فهل يعتبر كلام الجاحظ، وكلام المتنبي، كلاما قديما، ورأيهما في الكتاب، رأياً بالياً رَثًّا، لم يعد له مكان بيننا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين قرن العلوم والفيزياء، والتكنولوجيا، وقرن مجتمع المعرفة المتقدمة الإلكترونية، والأنساق التواصلية الباهرة؟. وإذاً، لماذا يستمر الكتاب الورقي حاضرا هنا، وهناك، وهنالك.. حاضرا في فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، والنمسا، وأمريكا، ودول آسيا، فضلا عن الدول العربية التي تجتهد في تنظيم معارض وصالونات للكتاب، وعقد ندوات وموائد مستديرة حول آخر الإصدارات، وتخصيص جوائز سمينة ومعتبرة للكتاب، والتراجمة، والمفكرين، والمبدعين كل سنة، يستوي في ذلك العرب كما العجم. ولنا في جائزة البوكر الإنجليزية، والبوكر في طبعتها العربية، والكونغور الفرنسية، والبوليتزر الأمريكية، وجائزة الملك فيصل العالمية، وجائزة الشيخ زايد، وجائزة السلطان العويس، وجائزة كاتارا، وجائزة المغرب للكتاب، وجوائز الدولة التقديرية في بعض الدول العربية، لنا في كل هذا ما يدحض مزاعم وتخرصات أولئك الذين يعلنون وفاة الكتاب الورقي، ويبشرون بعصر الرقميات كتبا ومنابر، ومنصات، ويوتيوبات، وغيرها. وكيف نفسر انكباب الناس إناثا وذكورا من مختلف الأجيال والأعمار والمشارب، والميول، والجنسيات، وكأن على رؤوسهم الطير، على قراءة الكتاب، والاستغراق في عوالمه داخل المحلات الفارغة أو المزدحمة، والأماكن المفتوحة، والحدائق العامة، والمكتبات، وردهات المطارات، وفضاءات المقاهي، ومتروات الأنفاق، والحافلات والقطارات، بل، وفي المقابر. يقرأون من دون أن ينفقوا أوقاتهم في النميمة والثرثرة الفارغة لأن الزمن سيقطعهم إن لم يقطعوه. وهم من هم في سلم ومراقي العلم والتكنولوجيا والحضارة، أقصد بلدانهم أوروبية كانت أو أسيوية. إن القراءة في بلدنا وفي العالم العربي، تعرف تدنيا مَهُولاً، وعزوفا ملحوظا، ساهم فيهما سوء التوجيه والتربية والتعليم. وساهم فيهما الانبهار بالفتوحات التكنولوجية الذكية. والمغلوب دائم التقليد للغالب، والأكثر إقبالا واستهلاكا لبضائعه و" خردواته ". لقد تنفس المغرب، من خلال نخبه التربوية والثقافية، والسياسية، والجمعياتية، الصعداء، وكان محتقنا ومختنقا بسبب الإحباطات، والتراجعات، والمشاكل التي تترى، والتدبير الأعرج لملفات مصيرية كالتعليم والصحة والشغل، والبحث العلمي. وإذاً، فإن فوز الطفلة البطلة مريم، بهذه الجائزة المعتبرة في الموسم الثالث من مشروع " تحدي القراءة العربي "، الذي يرعاه الشيخ محمد بن راشد آل خليفة، يعتبر بالمقاييس الثقافية والتربوية فوزا للمغرب، ونجمة ومضت في ظلمة تلفنا قليلا أو كثيرا. و الجدير بالذكر، هو أن الموسم الحالي لمشروع " تحدي القراءة العربي "، عرف مشاركة عشرة ملايين وخمسمئة ألف مشارك من أربع وأربعين 44 دولة عربية وغير عربية. موسم راهن ويراهن، كسابقيْه، على القراءة، محرضا وحاثا، ومثيرا، وراعيا، وفاتحا للمتنافسين المتبارين، الآفاق اللازوردية من أجل إيلاء القراءة الأهمية المعتبرة، وتقدير الكتاب، وبلورة مقروءاتهم ومعارفهم على أرض الواقع من حيث القدرة على التواصل الثقافي والحضاري مع الأمم الأخرى، وإضافة شمس عربية صغيرة إلى باقي شموس الكون المعرفية المبهرة. مريم أمجون: وردة الأمل الفواحة ذات البتلات التسع الملونة المبهجة، ابنة تاونات، تلميذة بلدة تيسة، مدينة الناس الطيبين، ومدينة المقاومة والنبل، والخيول الجميلة الرشيقة سليلة الحصان العربي، والحصان الأمازيغي، فكأنما هي سليلة التصاهرالمغربي العظيم في تركيبته وكليته. ها هي ذي تسجل اسمها في تاريخ القراءة والمعرفة بحصولها على أرفع تقدير وتنويه، وأبسق جائزة فازت بها عن جدارة واستحقاق من بين الملايين المشاركة، بفضل مثابرتها " العنيدة "، وبفضل أبويها اللذين ربياها على القراءة والمطالعة، وعشق الكتاب، أمكن للطفلة الذكية أن تحقق العجب العجاب. إنه درس وأي درس للذين يشككون في جدوى القراءة، وجدوى المطالعة الحرة، والتثقيف الذاتي والكتاب، بل ويعتبرون ذلك فضلة زائدة في عصر العلم والإنترنت والتكنولوجيا الماحقة، والفتوحات البيوهندسية الصاعقة. ودرس للذين لم يَرْعَووا، ولم يستفيدوا من الآخرين، في دول جد متقدمة علميا وحضاريا، لا تهمل أحد مصادر الثقافة الرئيس: وهو الكتاب الورقي. وتعطي الدليل تلو الدليل بالتهليل له إعلاميا، وطباعيا، ونشرا، وتتويجا، وبإقامة الصالونات، وتشييد المباني الضخمة الفخمة الجميلة للفنون والآداب والموسيقا: من لوحات وكتب مُسَفَّرَة، وخطوطات، ومنحوتات وتماثيل ونُصُب لعباقرتها ونوابغها من المبدعين والمفكرين والمخترعين. ودرس لسياسة البلاد التعليمية المتخبطة التائهة الفاقدة البوصلة التي لا تعرف متى تتكلم، ومتى تتدخل، ومتى تصلح، ومتى تؤهل، ومتى تقدم الحساب عما أتت، وعما فعلت. كما أنه درس وضيء في واقع المدرسة العمومية المتردي، ووضعها البائس والمتضعضع، المدرسة التي لا تقيم وزنا للكتاب، ولا للقراءة الحرة معا. وهنا، لا يفوتني أن أشكر، وأحيي الجمعيات منوها بها، تلك الجمعيات التي أخذت على عاتقها دعم الكتاب الورقي، وتنمية قراءته، إذ جعلت منه هدفا،، ورهانا، وأفقا في واقع يتسم بالعزوف والإشاحة، واللامبالاة،: واقع طلابي وتلاميذي يقبل بلا فرامل ولا كوابح على الهواتف الجوالة الذكية، والحواسيب، والإنترنت. وأعني بالجمعيات " شبكة القراءة بالمغرب " في شخص رئيستها، وباقي فروعها في جهات الوطن ( فاس، مكناس، وجدة، الرباط، الدارلبيضاء، طنجة، تطوان، الجديدة، مراكش، بني ملال.. الخ الخ )، من دون إغفال التذكير باليوم الوطني الهام المخصص للقراءة، والذي ينطلق حيا متوثبا في العاشر من شهر مايو كل سنة، محفزا وحاثا ومستحثا، ومراهنا على خلق وبناء وتربية جمهور عريض من القراء والقارئات وسط التلاميذ والطلبة، والكبار. فماذا يقول الوزير الداودي، وأتباع الداودي: هل ما فعلته مريم أمجون مضيعة للوقت والجهد لأن الكلمة الأولى والأخيرة للعلم والهندسة، والفيزياء والرياضيات؟. يا سيدي: ما أظلمك.اا