الشعر كشفٌ وتَحَوُّل، وإدهاشٌ جماليٌّ، ورؤيا، يَنْكَتِبُ ويتشكلن في أثناء التحبير، وافتراع اللغة، ومباطنة البياض، والتودد للطيوف والحروف، والأفكار. ذاكرته بطبيعة الحال : الأوزان، والنبر، والإيقاع، والصور، والأناشيد، والفتوحات الشعرية الباذخة في جينالوجيته وشجرة أنسابه، وفي منجز اللغات الأخرى. ولا مَعْدى عن هذا المفهوم، إلا إذا شِيءَ الإبقاء على النمط الموطوء، والسيمترية التقليدية " القويمة "، والعمود المتيبس الدارس، والمنسأة المنخوبة التي تولتها الأزمنة المتعاقبة بالتجريف والتعرية، والإنضاء والهزال، وبالرطوبة العطنة التي ترشح رائحة غامِلَةً لا تنفع كل عطور الدنيا في إخفائها وطردها. وعندما نتحدث عن شعرية الشعر كما يعرف الجميع فإننا نتحدث، في العمق، عما يجعل الشعر شعرا بالقوة وبالفعل، عن تلك الجذوة الكامنة المشتعلة التي تتواثب جمالا وإمتاعا وفائدة. وإذاً، فشعرية الشعر، هي شعرية التحولات، أو أن التحولات المختلفة المحتومة التي تطول الوعي الثقافي والفكري والفلسفي، والاجتماعي والنفسي والبيئي، هي ما يدمغ ويَصِمُ مُجْتَمِعاً ومتفرقا الشعر ب " الشعرية "، والإدهاش. ومن ثَمّ، فإن شعرية التحولات والإبدالات لا تخرج البتة عن معنى تلمس الجماليات أنَّى كانت، وحيثما كَمَنَتْ واسْتَتَرَتْ، وتحقيق الخصائص الفنية البانية التي هي مناط الكتابة الإبداعية التي يتَقَوَّمُ بها النص الأدبي، فما بالك بالشعري. فضلا عن البحث الدؤوب والمُضْني عما يرفع اللغة إلى ذروة الإشراق، وقُنَّة الصحو أو الإغراق، والدلالة فيها إلى آفاق الاستشراف، ومفاوز اللاَّمرئي والمجهول، واللاَّمتناهي. وهذه الشعرية عدا عن أنها لائطة بما يصير إليه النص وهو يختبر التجارب والأشكال، ويجترح ما به ينماز عن النص السالف، النص الماضي، الجذر المتأصل فإنها تتصل بتاريخية ذاك النص، بالمعنى الذي يعطيه عبد الله العروي للتاريخية، وهو يبدل جلده ولُبابه، وَفْقاً للتحولات المعرفية، والتحققات الجمالية هنا والآن، وفي هذا الصقع أو ذاك، ولدى هذه السلالة أو تلك. وبناءً عليه، لا مجال للكلام عن طبيعة النص الموازي أو المنخرط في سؤال الإنهاض والثورة، وإلاَّ ألفينا أنفسنا في صدد التحدث عن رسالة الأدب، والشعر الخطابي، والنظم الثوري الزاعق، أو الرومانسي الرخو والباكي الذي من مظاهره: المباشرة، والتقريرية، والتأثرية، والهتافية، والهدير اللغوي العاتي، والطنين الوزني، والرنين القافوي. رسالة الشعر اليوم تثوي في بنيان الشعر، وتستكن في نسيجه وتلافيفه ومفاصله، في إهاب من الصوغ الإبداعي، والإدهاش الجمالي، وفي وَساعَة الرؤيا، ونفاذ اللغة والصورة، وبعيد المعنى، و" هروب " الدلالة. فشعرية التحولات المُنْصِتَة حقا لنبض القلب والواقع، ونداءات الأنا، تحاول ما وسعها السعي القبضَ على تلك القيم الجمالية الخالدة، والقيم الجمالية الأخرى المُخْتَلَقَة الإبدالية التي يحققها الشعراء بالمعاناة، والمكابدة، والاختراق، والصبر، والبصيرة النافذة، والنظر الحديد. فإذا النصوص الجياد هي ثمار تجربة لغوية وروحية غنية ثرية، وممتدة في القراءة والحياة، ومحصلة تفاعل حي وجدلي مع الفيزيقا والميتافيزيقا، وصدى نداء الحبر، والموتى الجبابرة، والدم. فبين شعرية التحولات، وتحولات الشعرية، عروة وثقى، ورابط سيامي، بينهما ينتصب مفهوما السانكرونية والدياكرونية بلغة اللسانيات. بل إنهما يمتزجان وينصهران ليشكلا ما ينكتب الان وغداً، وما ينقلب على نفسه متعاطيا مع التجربة اللغوية والشعرية والروحية التي أومأت إليها والتي لا تنفك تنبني مع كل فتح جديد، إذ لا معيار ولا سقفَ لها، ولا عمودَ تستند إليه لتستقويَ به. إنها تجربة تتطور لدى الشاعر الواحد وهو يتفاعل مع الأشياء والكائنات والعالم والناس، متخطيا ومستشرفا، عُدَّتُهُ الحلم والخير والجمال، ما يُسْهِم ، بهذا القدر أو ذاك، في تجلي الجميل بتعبير كَاداميرْ، وسط القبح والبشاعة العامين. بهذا المعنى، يكون الشعر أبعد عن المرآوية، ورجع الصدى، واللهاث خلف ما يحدث وما يقع. وبهذا المعنى، يكون الشعر متعاليا، نافذا، مؤثرا، فيما هو يغوص حتى الجذور في مشكلات الواقع والإنسان. إن آفتنا كشريحة عربية إسلامية، تقرأ وتكتب وتفكر، ك " مثقفين " إنْ صَحَّ فينا هذا الوصف، واستحققنا هذا اللقب التلفيقُ والتوفيقُ والترميقُ. ما يعني أننا لا نقطع دابر الأمر، إذا استشكل، بالصرامة المطلوبة، وبالعزم المرغوب. ولا نخرج برأي حاسم في ما يستوجب الحسم، خصوصا فيما يتصل بالفكر والأدب والفن. وهي الأجناس والأنواع اللغوية، والتعبيرات الروحية التي تَسْتبِقُ، وتُماشي، وتستشرف التطور والتغيير والتحديث، تَبْعاً للقطائع الإبستمولوجية، والمهيمنات الجمالية والثقافية الجديدة، والكشوفات العلمية والتكنولوجية والسياسية والفكرية التي تنبثق وتتوطن كثمرة للبحث والتنقيب والتخطيط والتخطي، وكثمرة لنداءات الواقع المتحول دوما، والوعي الحاد بهذا التحول. لذلك، لم أستغرب للنقاش الدائر الآن حول شعرية القصيدة العمودية من عدمها، وحول " دزينة " الألقاب التي تطلق جزافا، وكيفما اتفق، إرضاء لأطراف معينة، وجبرا للخواطر، وتلبية لانتظارات رسمية، وأفضية فارهة مخملية في مفارقة غريبة لا نستطيعها إلا نحن العرب لا تَني تؤبد الماضوي، والتقليداني، والقديم الرَّثَّ، وتسبغ عليه إبريز أنجم السعد والوعد، والمديح المجاني، ولسان حالها يقول: ( ليس في الإمكان أبدع مما كان ). وكأننا نستأنف مغتبطين معركة المحدث والقديم، وثنائية اللفظ والمعنى، ونسعى إلى إضافة أسماء تعيش بيننا ولا تعيش، إلى مصنف: " طبقات فحول الشعراء " للجمحي، وإلى " حماسة أبي تمام "، حماسة جديدة، غير أنها تتزيا بأرقى البِدل، وتتجمل بأثمن الحُللِ، وتنعم بفائض القُبَلِ.