يستمرّ التّفاعل مع وفاة الفقيه والمحدّث التّطواني محمد الأمين بوخبزة، الذي ووري الثّرى في مدينة "الحمامة البيضاء"، عصر الجمعة الماضية، في جنازة مشهودة وموكب مهيب رافقه إلى متواهُ الأخير. ونعت المنظّمة العربية للتّربية والثّقافة والعلوم "علّامة تطوان والمغرب الشيخ محمدا بن الأمين بوخبزة، الذي رحل عن دنيانا يوم الخميس الماضي 30 يناير عن عمر ناهز 88 عاماً". وقالت إنّ "الثقافة العربية والإسلامية (قد فقدت) بفقده علمًا كبيرًا من أعلام التراث، المنتمين له، المتبتلين في محرابه، وما أقلَّهم هذه الأيام!" وزادت المنظّمة في بيان بموقعها الرّسمي: "إنْ كان الرجل تطوانيًّا مغربيًا بحسب سكنه، فإنه كان عربيًّا إسلاميًّا عالميًّا بحسب انتمائه"، ولذا "لم تقتصر شهرته على المغرب، بل تجاوزتها إلى العالم العربي والإسلامي، فعُرف وشهر وقصده الناس من كل مكان". وكتبت منظّمة ال"ألكسو" أن الفقيه بوخبزة قد جمع "بين العلم والانتماء والإخلاص: العلم الواسع المتبحر في مختلف علوم اللغة والدين، وبخاصة الفقه والحديث، والانتماء للإسلام دينًا وثقافة الذي دعا له وذاد عنه طوال حياته، وعلى كل المنابر التي ارتقاها، والإخلاص الذي لم يخالطه شيء من نوازع الدنيا وبهارجها". وترى المنظّمة أنّ "الراحل الكبير -تمتّع- بقدرة عجيبة على الحفظ والاستحضار، فقد وهبه الله ذاكرة واسعة لا تخون ولا تتردَّد ولا تنسى"، كما امتلك "لسانًا بليغًا وقدرة على الخطابة والتأثير"، وهو ما وظّفه لخدمة الإسلام والعربية. وشدّدت المنظّمة على أنّ محمدا الأمين بوخبزة يذكّر "بالأسماء الكبيرة والعظيمة في تراثنا، علمًا وصدقًا وعطاءً وتواضعًا". مضيفة: لقد نسخ الراحل بخطه الجميل أكثر من ستين مجلدًا من كتب التراث، وعلى نسخه المتقنة كان التعويل في تحقيق ما ظهر منها مطبوعًا (...) وإن ننسَ فلن ننسى تلك الذكريات التي دوَّنها منذ شبابه، وهي في الحقيقة ليست ذكريات (...) وإنما موسوعات زاخرة بالعلم"، مشيرة إلى واحدة منها هي "جراب الأديب السائح" الواقعة في اثني عشر مجلدًا. وخطّ المحدّث الراحل محمد الأمين بوخبزة عشرات الكتب حول المذاهب الإسلامية، والسيرة النبوية، وتاريخ علم الحديث بالمغرب، وأحكام القرآن، وكانت له تحقيقات عديدة لكتب الحديث النبوي، انتشرت في العديد من الأقطار. وتعهّدت عائلة الفقيد، في بيان نشرته بعد وفاته، بنشر مؤلفاته ومصنفاته، بعدما أوصى ب"أن يُنظر في تلك الأوضاع والمنشآت، ويُنتقى منها ما يتأكّد خيره ونفعه، ويُتبصّر في إخراجها، ويتغيّى الفائدة المرجوّة، والحسنة المتلوّة"، وعَهد بذلك إلى ابنه وبعض تلامذته. وكان الفقيد مشرفا على مجلة "الحديقة" التي لم تعمِّر إلا أشهرا خمسة، وجريدة "البرهان" التي لم يصدر منها إلا عدد واحد لانتقادها "سياسة الاستعمار الإسباني في التّعليم واضطهاد الطّلبة والتّضييق عليهم"، كما سبق أن أوقفته وزارة الأوقاف، في عهد الوزير الراحل عبد الكبير العلوي المدغري، عن الخطابة. وكان بيت الفقيه التّطواني البارز مفتوحا في وجه الباحثين في العلوم والمعارف الإسلامية، من أقطار العالم. ولم يمرّ نعيه دون إعادة مشاركة بعض من أشرطته الحوارية، في أحد اللقاءات ببيته، وهو يقول إنّ "مكان المرأة هو بيتها وخدمة زوجها"، وأنّ استوزارَها وعملها في السّفارات والقضاء ومناصب الرئاسة وما من نحو ذلك لا يوجد في نظام الإسلام، بل جاء هذا بعد الاستعمار واختلاط الأوراق النّاتج عنه. وسبق أن كلفّت المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم -إيسيسكو-، المسمّاة اليوم منظّمة العالَم الإسلامي للتربية والثقافة والعلوم، الرّاحل ب"مراجعة معجم تفاسير القرآن الكريم الذي صدر عنها والاستدراك عليه". كما صدرت له ترجمة ضمن مادة التعريف بأسرته "بوخبزة" في "معلمة المغرب" التي أشرف عليها المؤرّخ الراحل محمد حَجي. وسبق أن طلب عبد الوهاب بن منصور، مؤرخ المملكة الأسبق، من الفقيه محمد الأمين بوخبزة ترجمة له ليدرجها في موسوعته "أعلام المغرب العربي"، وهو ما قال الراحل إنّه يذكر أنه اعتذر عن القيام به، قائلا: "أنا تلميذ محب للعلم ولست من الأعلام حتى أترجَم ضمنهم"، ليجيبه المؤرّخ الراحل "أن كثيرا جدا ممن تضمهم معاجم التراجم وكتب الطبقات والتواريخ عوام أو في حكمهم، لا يستحقون أن يكونوا تلامذة بمعنى الكلمة، ومع ذلك فقد أضفيت عليهم الألقاب والأوصاف، وأسدلت عليهم أردية التعظيم والاحترام (...) فكيف تكِعُّ أنت عن التعريف بنفسك، وقد انتفع الناس بك".