انشغل العالم بتجربة دول شرق آسيا، باعتبارها أول ضحايا كوفيد 19، وأول المسيطرين عليه، بأقل الخسائر، وفي زمن قياسي لبعضها، مقارنة مع الدول الغربية. مما جعل الوفود الصحفية تيمم نحوها تحقيقا وتنقيبا عن الوصفة السحرية، للتعامل مع هذا الوباء الذي غير مجرى اليومي للناس، وألزمهم ديارهم، وأدخل الاقتصاد في ركود لم يسبق له مثيل، وأشعل حربا بين الكبار، تنضاف إلى الحروب الباردة والتجارية والإعلامية والحضارية و…. مركزية الأخلاق في السراء والضراء: «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت # فإنهم ذهبت أخلاقهم ذهبوا». كثيرة هي الأشعار والحكم التي تصب في هذا المعنى، فهي سلاح لا يقل أهمية عن باقي الأسلحة في مواجهة وإثبات الذات أمام الأعداء، ومضادات حيوية تقوي مناعة المجتمع، حين هبوب رياح الأوبئة والابتلاءات.. وتعد من الأساسيات التي تبنى عليها الدول والحضارات، وتعصمها من الانهيار. ولا يخفى دورها في تماسك لحمة النسيج الاجتماعي، باعتبارها عامل يزكي روح التعاون والتضامن، وكل ما من شأنه أن يعاضد ويقوي المجتمع. ودروس التاريخ، تخبرنا كيف انهارت الدول، وتهاوت الحضارات تحت معاول الترف المادي، المفضي إلى فساد الأخلاق. وهو ما أشار إليه ابن خلدون، وهو يلاحظ تداعي دولة الموحدين وسقوط الأندلس. و أشد ما تكون الحاجة إلى القيم والأخلاق، ساعة الابتلاءات و الأزمات، فيعلو صوتها، علو « صوت المعركة »، التي تُخاض ب« السيف والقرطاس والقلم »، فدائما كان القلم وما يسطرون، رمزا لسمو الفكر، ونبل السلوك.. حيث تصبح الحاجة ماسة إلى قيم الانضباط لصوت الضمير، وللتحذيرات « التي تعبر عن ضمير الجماعة… تفرضها على أفرادها تحقيقا للخير وتجنبا للشر، والتي يستلزم عدم التزامها، سخط المجتمع، وازدراؤه لمخالف». هي منظومة أخلاقية تؤتي أكلها، حين يكون الصدق مع الذات ومع الآخر، ناظمها وعامل يدفع إلى تجسيدها حالا ومقالا. هي قيم، لا يماري أحد في وجاهتها، وهي العاصم من الهلاك الفردي والجماعي. كما أنها سبيل إلى التنمية الذاتية والمجتمعية. المنظومة القيمية في مواجهة الظاهرة الوبائية: وهو ما وقف عنده تحقيق صحفي لإحدى القنوات الفضائية، في دول شرق آسيا، وخصوصا تايوان. فمن بين الإجراءات التي اتخذت فيها: أن يخبر الطالب الإدارة عند إقباله على باب الجامعة، بدرجة حرارته من هاتفه. فلما طرح الصحفي إمكانية كذب الطالب، على التو بادرته طالبة: « التايوانيون لا يكذبون». مما جعل الثقة بين المواطن والمسؤول حاضرة وبقوة. فتجد التوجيهات من يتقبلها ويستجيب لها، إيمانا بجدواها في تحقيق المصلحة العامة. وفي تراثنا نجد: « عليك بالصدق، حيث ترى أنه يضرك فإنه ينفعك». وقد اعتبره ابن القيم الطريق الأسلم لتفادي الهلاك، وشحنة على اقتحام الأهوال، وصاحبه منصور على خصومه. فالعلاقات الاجتماعية تبنى على الكلمة الصادقة، وهي أجمل وسام لصاحبها، ومنبع شرفه بين الناس. ومجتمع يسوده الكذب، هو مجتمع مفكك، فاقد للثقة أفقيا وعموديا. فضرورة الصدق في حياتنا الخاصة، كضرورته في الحياة العامة. يكرس انطلاقا من الأسرة، ويشع نوره على المجتمع والوطن. وهو ما يطلق عليه: الشفافية، التي هي « مجموعة من القيم المتعلقة بالصدق والأمانة والإخلاص في العمل، والاهتمام بالمصلحة العامة». الضامن لبناء الثقة بين المواطنين وصناع القرار. وحسن التواصل الفعال بين أطراف العملية الاجتماعية والإدارية و… ويسهر الإعلام بحراستها، وتيسير سبل إشاعة المعلومة، بين صناعها والمستهلكين لها. فكيف نثق في المعارف والعلوم والأخبار إذا غاب الصدق؟ وكيف توجد إذا غابت الشفافية؟ فالصدق « أمر واجب»، سواء وافق هوانا أم لا، لكنه بالتأكيد يوافق مصلحتنا، إن لم تكن العاجلة، فالآجلة. والثقة «تسير مع الصدق يدا بيد». من نافلة القول: أن الأخلاق والقيم، هي بناء داخلي، يتزين به وجدان الإنسان ويتعلق به. لكن لها تجليات في سلوكياته وأدائه الخارجي. وجميل أن يتصرف المرء وفق المصلحة العامة والذوق العام وما يمليه الواجب من تلقاء ذاته. وبمثل هذا الانضباط القيمي، تذلل الصعاب، و تتجاوز التحديات. ومن هنا فهو عامل تنموي، ظهرت نتائجه في مجتمعات شرق آسيا، قبل الوباء وفي أوج انتشاره. ويعد الانضباط الذاتي خلق نابع من شخصية الفرد في نظر بعض الباحثين، تغذيه البيئة والدور الاجتماعي والموقف الذي يعيشه الفرد. لكن المجتمعات البشرية وضعت القواعد والروادع، لسوق الناس للانضباط كرها، بعد أن امتنعوا عنه اختيارا. التكنولوجيا ترفع منسوب القيم: وللمزيد من الشفافية، وإرساء دعائم الحكامة الرشيدة، سُخرت التكنولوجيا في خدمة الالتزام طوعا للبعض، وإكراها للبعض الآخر. فما وجدت التكنولوجيا إلا خدمة للإنسان وتحقيقا لسعادته، وتسهيل ما صعب من أمور حياته. كما سخرها البعض، لتدمير الإنسان ونسف حضارته. وبين هذا وذاك، تقف الأخلاق حارسا أمينا على الاولى، وسدا منيعا دون السقوط في براثن الثانية. وقد تجلى بوضوح هذا الاستخدام الخلاق للتكنولوجيا في الوقاية وصد الوباء، بشكل جلي في كوريا الجنوبية واليابان، حيث وضعت تطبيقات، حالت دون توقيف الدورة الاقتصادية، وعونا على قضاء الحاجات. حتى قيل: هزمت الصين الوباء بالاستبداد، وكوريا هزمته بالتكنولوجيا. فقد استخدمت تكنولوجيا المعلومات، لتبليغ التوجيهات للمعنيين بها، وفي التسوق و العمل والتعلم واستكمال التكوين عن بعد، تطبيقات تخبر صاحب الهاتف بالحالة الوبائية في محيطه، وبأقرب حالة منه لأخذ الاحتياطات. وكان الأنترنيت حارس المفروض عليه الحجر الصحي، والكاميرات المنصوبة في الأماكن العامة، دليلا للتعرف على المخالطين، فللضرورة أحكامها، وإن أثارت حفيظة حراس حقوق الإنسان. إن مثل هذا الاستخدام للتكنولوجيا، الذي يضفي عليها معاني إنسانية وأخلاقية، يحسم الخلاف حول أهميتها وضرورتها، بل وجوبها لفتح آفاقا أمام حياة أكثر ممانعة ضد فتك الوباء. كما أنها ضرورية لحياة أكثر يسرا وسعادة، بالاستخدام الخلاق لمعطيات العلم، وهو المخول له بردع الاستخدام السيء لمجهود منتجيه. الإنسان كائن أخلاقي، والبعض اعتبره كائنا عاقلا. « فإذا هما اجتمعا لعاقل نال من العلياء كل مكان»، فكل الأديان والفلاسفة، تحدثوا عن أهمية الأخلاق في بناء مجتمع يرفل في الفضيلة والسعادة. ولن يتحقق إلا بمدى تشرب أفراده لتعاليمها وتجسيدها واستثمارها، في السراء كما في الضراء. وهو ما تسهر عليه مؤسسات التنشئة الاجتماعية، التي تبتدئ بالأسرة، ولا تنتهي بالمؤسسات الرسمية التي تنشئها الدولة لذات الغرض. وهي الكفيلة ببناء الثقة بين مكونات المجتمع، التي بها يخوض المعارك، و يواجه الأزمات، فتكون عامل تماسك ونقط قوة، وسلاحا ينضاف إلى أسلحة أخرى، تكسب النصر على الأعداء، والنجاح في تجاوز الأزمات.