إذا كانت الفئات الهشة تختلف في طبيعتها ونوعها ودرجة هشاشتها،فيمكن تصنيف الأشخاص ذوو التوحد بأنهم الأكثر هشاشة على الإطلاق، مقارنة بالنساء والأطفال والفقراء ومثلثي الصبغي…إلخ، إذا كان الأمر كذلك فإن الدولة ملزمة بمعرفة الحيثيات والتفاصيل الدقيقة لهذه الفئة من المواطنين، من أجل النجاح في خلق سياسة تتوخى دمجهم في الحياة العامة، استنادا إلى آخر النظريات والمناهج العلمية، وهنا يبرز السؤال التالي وبإلحاح: ما الذي أعدته الدولة مما يمكن اعتباره سياسة إدماجية لفئة التوحديين في الحياة العامة والخاصة كرد استباقي على الآثار المدمرة والانقلابية على معايير وأنماط الحياة التي بناها التوحديون بصعوبة على مدى سنوات؟ هل يصح الحديث عن نزعة إنسانية لدى الدولة فيما يخص هذه الفئة؟ أم الأمر عكس ذلك تماما؟ وما هي الخطوط العامة التي يمكن أن تتحرك ضمنها سياسة إنسانية حقيقية؟ إن أولى التعاريف الأساسية للحياة الهشة هي أنها حياة يتوقف بقاؤها على تدخل عامل خارجي (الدولة_ الأسرة_ المجتمع) على أرضية قانونية وأخلاقية دون أن يكون للأخلاق دلالة إحسانية أو خيرية؛ وإنما فعل تدخلي يتأطر ضمن فلسفة الحق والواجب، أي ضمن فلسفة القانون، مع ضرورة ارتفاع حدة هذا الوعي في أوقات الأزمات مثل التي يشهدها العالم حاليا بسببب فيروس كورونا، والسبب هو أن درجات الهشاشة تصل إلى مستويات حرجة لأن أوضاع الأزمات تحول حياة الناس العاديين إلى حياة هشة، تتطلب الاستعانة بالقيم الأخلاقية التضامنية، وبفلسفة الحق التي تضمن تدخل الدولة والفاعلين لإنقاذ قطاعات واسعة من الشعب من السقوط في براتن الجوع ومخاطر أخرى… هذا الانقلاب الحرج في حياة الناس، والذي تتحدث بعض الإحصائيات عن تسببه في ارتفاع حالات العنف ومحاولات الانتحار بين الناس العاديين، يكون له آثار أكثر إيلاما على حياة الأشخاص ذوو التوحد، وذلك على مستويين: نفسي إدراكي، _و اقتصادي اجتماعي. 1- المستوى النفسي الإدراكي: بغض النظر عن غياب القوانين الحمائية التي تناهض كل أشكال التمييز الاجتماعي ضد الأشخاص التوحديين، وهو ما يضاعف -إلى جانب كل الأشخاص في وضعية إعاقة- إحساسهم بالنبذ والرفض الاجتماعي، ناهيك عن سوء المعاملة الأسرية (في بعض الأحيان) التي تصل إلى حد الحجز في غرف منعزلة، فإن المحظوظين من بينهم، ممن ينتمون إلى أسر متعلمة ومتوسطة الدخل يستغرقون سنوات طوال للتعود داخل مراكز الترويض، والمدرسة،على نمط يومي يوفر لهم الأمن العاطفي والإدراكي من خلال نظام حياة الأخصائيين والمرافقة والأستاذ/ة المحدد/ة بصورت/ها واسم/ها، ووجوه التلميذات والتلاميذ، والغدوات والروحات بعينها إلى مراكز الترويض أو المدرسة أو الحديقة…وغيرها من طقوس التعلم التي تدخل في برنامج متكرر يمنح التوحدي نوعا من الاستقرار العاطفي والأمن الإدراكي، يتطلب بناؤه جهودا مضنية تبدلها الأسرة والأخصائيين والمربين، في غياب تدخل استراتيجي قوي من طرف الدولة والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين. ومما يزيد من سوء حظ هذه الفئة أن وضعية الاستقرار هذه يتم الانقلاب عليها بشكل جذري في أوقات الأزمات، مما يهدد بإعادة الطفل التوحدي إلى نقطة الصفر، بل وهذا هو الأكثر خطورة إلى انزوائه التام احتجاجا على محيط استبدل المرافقة بالأم والأستاذ/ة والسبورة بالهاتف النقال، والمدرسة بجدران البيت…، فالتوحدي الذي يعاني أصلا من حالة الانحباس النفسي الشديد، وجد نفسه فجأة في مواجهة سياسة حجر صحي لا قِبل له بها، هي بالنسبة له سجن وأسلوب حياة غادر، مما ضاعف صرخات الاحتجاج المؤلمة لدى هؤلاء الأطفال. وهذا ما لاحظه الآباء. إن الأطفال التوحديين يصرخون من الألم احتجاجا على سياسة حجر لم تأخد وضعيتهم الهشة بعين الاعتبار. 2- المستوى الاقتصادي والاجتماعي. إن ارتفاع وثيرة العنف ضد الأشخاص في وضعية هشة في كل بلدان العالم، كان أمرا طبيعيا ومتوقعا بسبب الانقلاب العنيف في أساليب حياة الأسر والأفراد اقتصاديا واجتماعيا، فبين ليلة وضحاها أغلقت المعامل والمؤسسات والوحدات الإنتاجية، وسرح آلاف العمال والمستخدمين، وبذلك انخفض سقف الإحساس بالكرامة نتيجة لهذا التفكك العارض لوحدة العمل-الكرامة- والحرية، خاصة لدى الفقراء، وهم الأغلبية، والذين أصبح الحجر الصحي بالنسبة لهم فرصة لتأمل همومهم واجترار حرمانهم، خاصة الذين يوجد فيهم ذوي إعاقة. وكنتيجة لانخفاض منسوب الكرامة، ارتفع منسوب المشاعر السلبية مثل التدمر والكراهية والقنوط، وبهذا يجد التوحدي نفسه في قلب جهنم اجتماعية، حيث تضاعف قسوة وفجائية التغيير في المستوى الاقتصادي والاجتماعي تضاعف حيرته وشتاته النفسي والإدراكي، وللإيجاز فإن مسؤولية الدولة تتلخص فيما يلي: – سن قوانين حمائية تعاقب على المستوى الجنائي- التمييز ضد الأشخاص ذوو التوحد في المدرسة والبيت والشارع…- – تمكين أسر ذوو التوحد -على المستوى المالي- من منح شهرية خاصة بهم تضمن لهم كرامتهم في الأسرة، وتوفر لهم بعض سبل ووسائل التعلم والإدماج. – تخصيص فضاءات عامة (حدائق، مراكز ترفيه…) خاصة بالتوحديين ومرافقيهم لا تتأثر بأجواء الحجر الصحي وغيره من الطوارئ للمساعدة على مراكمة وتطوير مهارات الإدراك والأمن النفسي التي راكموها قبل حالات الاستثناء والتي صارت مهددة بالاختفاء بسببها. – إقرار مجال هام في الخطاب العمومي والتلفزيوني والإعلامي موجه لهم من أجل الترفيه، وموجه للمجتمع من أجل تخليق الوعي العام فيما يتعلق بهم.